جمع القرآن تطلق تارة، ويراد منها حفظه
واستظهاره في الصدور. وتطلق تارة أخرى ويراد منها كتابته كله حروفاً
وكلمات وآياتٍ وسوراً. هذا جمع في الصحائف والسطور، وذاك جمع في القلوب
والصدور. ثم إن جمعه بمعنى كتابته حدث في الصدر الأول ثلاث مرات: الأولى
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية في خلافة أبي بكر، والثالثة في
عهد عثمان، وفي هذه المرة الأخيرة وحدها نسخت المصاحف وأرسلت إلى الآفاق.
وقد أُثيرت في هذا الموضوع شُبه باردة لا مناص لنا من أن نكشف عنها
اللثام، ثم نعرضها لحرارة الحقائق العلمية الصحيحة، حتى تذوب وَتَنْماع،
أو تذهب وتتبخر ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في
الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ) (سورة الرعد، الآية: 17). جمع القرآن
بمعنى كتابته في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: إن همة الرسول
وأصحابه كانت منصرفة أول الأمر، إلى جمع القرآن في القلوب بحفظه
واستظهاره، ضرورة أنه نبي أميٌّ بعثه الله في الأميين. أضف إلى ذلك أن
أدوات الكتابة لم تكن ميسورة لديهم في ذلك العهد. ومن هنا كان التعويل على
الحفظ في الصدور، يفوق التعويل على الحفظ بين السطور. على عادة العرب
أيامئذٍ من جعل صفحات صدورهم وقلوبهم، دواوين لأشعارهم وأنسابهم ومفاخرهم
وأيامهم. ولكن القرآن حظي بأوفى نصيب من عناية النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، فلم تصرفهم عنايتهم بحفظه واستظهاره، عن عنايتهم بكتابته ونقشه ؛
ولكن بمقدار ما سمحت به وسائل الكتابة وأدواتها في عصرهم. فها هو ذا رسول
الله صلى الله عليه وسلم، قد اتخذ كُتاباً للوحي كلما نزل شيء من القرآن
أمرهم بكتابته، مبالغة في تسجيله وتقييده. وزيادة في التوثق والضبط
والاحتياط في كتاب الله تعالى حتى تُظاهر الكتابة الحفظ ويُعاضد النقش
اللفظ. وكان هؤلاء الكُتاب من خيرة الصحابة، فيهم أبو بكر، وعمر وعثمان،
وعلي، ومعاوية وأبان بن سعيد، وخالد بن الوليد، وأبي بن كعب، وزيد بن
ثابت، وثابت بن قيس، وغيرهم. وكان صلى الله عليه وسلم يدلهم على موضع
المكتوب من سورته، فيكتبونه فيما يسهل عليهم من العُسُب (العسب بضم العين
والسين – جمع عسيب – وهو جريد النخل، كانوا يكشفون الخوص ويكتبون في الطرف
العريض) واللِّخاف (اللخاف – بكسر اللام – جمع لخفة بفتح اللام وسكون
الخاء وهي الحجارة الرقيقة. وقال الخطابي: صفائح الحجارة )، والرقاع
(الرقاع: جمع رقعة، وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد )، وقطع الأديم
(الأديم: الجلد ) وعظام الأكتاف والأضلاع، ثم يوضع المكتوب في بيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا انقضى العهد النبوي السعيد والقرآن مجموع
على هذا النمط، بيد أنه لم يكتب في صحف ولا في مصاحف. بل كان منثوراً كما
سمعت بين الرقاع والعظام ونحوها مما ذكرنا. روي عن ابن عباس أنه قال: "
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب،
فقال: ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يُذكر فيه كذا وكذا " (سنن أبي داود
كتاب الصلاة، باب: 122). وعن زيد بن ثابت قال: " كنا عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم نُؤلف القرآن من الرقاع " (سنن الترمذي المناقب: 73 ؛
والإمام أحمد في المسند: 5/185 )
وكان هذا التأليف عبارة عن ترتيب الآيات حسب إرشاد النبي صلى الله عليه
وسلم وكان هذا الترتيب بتوقيف من جبريل عليه السلام، فقد ورد أن جبريل
عليه السلام كان يقول: " ضعوا كذا في موضع كذا ". ولا ريب أن جبريل كان لا
يصدر في ذلك إلا عن أمر الله عز وجل. أما الصحابة – رضوان الله عليهم –
فقد كان منهم من يكتبون القرآن، ولكن فيما تيسر لهم من قرطاس أو كتفٍ أو
عظم أو نحو ذلك، بالمقدار الذي يبلغ الواحد عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم. ولم يلتزموا توالي السور وترتيبها، وذلك لأن أحدهم كان إذا حفظ
سورة، فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه وكتابته، ثم يستدرك
ما كان قد فاته في غيابه، فيجمعه ويتتبعه على حسب ما يسهل له، فيقع فيما
يكتبه تقديم وتأخير بسبب ذلك. وقد كان من الصحابة من يعتمد على حفظه فلا
يكتب جرياً على عادة العرب في حفظ أنسابها، واستظهار مفاخرها وأشعارها من
غير كتابة. صفوة المقال: وصفوة المقال أن القرآن كان مكتوباً كله على عهد
الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت كتابته ملحوظاً فيها أن تشمل الأحرف
السبعة التي نزل عليها، غير أن بعض الصحابة كان قد كتب منسوخ التلاوة،
وبعض ما هو ثابت بخبر الواحد، وربما كتبه غير مرتب. ولم يكن القرآن على
ذلك العهد مجموعاً في صحف ولا مصاحف عامة. لماذا لم يجمع القرآن أيامئذٍ
في صحف ولا مصاحف؟ وإنما لم يجمع القرآن في صحف ولا مصاحف لاعتبارات
كثيرة: أولها: أنه لم يوجد من دواعي كتابته في صحف أو مصاحف مثل ما وجد
على عهد أبي بكر حتى كتبه في صحف. ولا مثل ما وجد على عهد عثمان حتى نسخه
في مصاحف. فالمسلمون وقتئذ بخير، والقراء كثيرون، والإسلام لم يستبحر
عمرانه بعد، والفتنة مأمونة، والتعويل لا يزال على الحفظ أكثر من الكتابة،
وأدوات
الكتابة غير ميسورة، وعناية الرسول باستظهار القرآن تفوق الوصف وتوفي على
الغاية، حتى في طريقة أدائه على حروفه السبعة التي نزل عليها. ثانيها: أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان بصدد أن ينزل عليه الوحي بنسخ ما شاء الله
من آية أو آيات. ثالثها: أن القرآن لم ينزل مرة واحدة، بل نزل منجماً في
مدى عشرين سنة أو أكثر. رابعها: أن ترتيب آياته وسوره ليس على ترتيب
نزوله، فقد علمت أن نزوله، كان على حسب الأسباب، أما ترتيبه فكان لغير ذلك
من الاعتبارات. وأنت خبير بأن القرآن لو جمع في صحف أو مصاحف والحال على
ما شرحنا لكان عرضة لتغيير الصحف أو المصاحف كلما وقع نسخ، أو حدث سبب. مع
أن الظروف لا تساعد، ,أدوات الكتابة ليست ميسورة، والتعويل كان على الحفظ
قبل كل شيء. ولكن لما استقر الأمر بختام التنزيل ووفاة الرسول صلى الله
عليه وسلم، وأمن النسخ، وتقرر الترتيب، ووجد من الدواعي ما يقتضي نسخه في
صحف أو مصاحف، وفق الله الخلفاء الراشدين فقاموا بهذا الواجب حفظاً
للقرآن، وحياطة لأصل التشريع الأول، مصداقاً لقوله سبحانه: ( إنا نحن
نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (سورة الحجر، الآية 9 )