شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن
في سياق إخباري يقدم لنا النص القرآني (شهر رمضان) على أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن دون غيره من الشهور، ومن كون المناخ الذي سيق فيه، هو مناخ الصيام، وللصيام عند الأمم السابقة مواعيد، والموعد الذي ضربه الله للمسلمين كي يصوموا فيه ،هو شهر رمضان، وتسويغا لهذا الموعد أسند الله سبحانه (الذي أنزل فيه القرآن) إلى (شهر رمضان) وبينه لدى المسلمين قيمة القرآن ومنزلته . وهذا كاف ليكون شهر القرآن ، شهرا للصوم . وبعد هذا الإخبار يقول جل وعلا في الآية نفسها ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه).
ومدار الكلام في الآية الكريمة هو إنزال القرآن وليس القرآن ، إذ إن (الإنزال) هو الحدث، وليس (القرآن) ، فالإنزال هو المسوغ لصيام شهر رمضان دون غيره ، لكون هذا الشهر مباركا بهذا الحدث الجليل .إذن(هدى للناس) مفعول لأجله ، يبين علة إنزال القرآن .
وتتابع الآية الكريمة(..وبينات من الهدى)و البينة الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة ، وإذا كانت علة إنزال القرآن هي إرشاد الناس ، فهذا يعني أن الناس في ضلال مبين ، وليس ذلك في زمان الإنزال حصرا ، بل في كل زمان ، إذ إن الكون والكائنات ، وعلاقة الانسان بها ، لن تستقر على حال واحدة، ولن يكون لها مظهر واحد ، وستظل إلى الأبد تنتج غموضا وأسئلة ، تواجهها اجتهادات وخيارات متعددة ، منها الضال ومنها الرشيد ، ومرجعية الحكم في رشادها أو ضلالها ، هو القرآن الكريم .
إن مفردة( هدى) تفتح آفاقا غير محدودة أمام القارئ ، فهي ليست هدى في غمرة ضلال معين ، إنما هي مضاد حيوي للضلال . وبينات من الهدى ، توحي بأن القرآن الكريم لا ينطوي على مجرد مواقف من الضلال ، أو إشارات إليه ، بل توحي بأنه ينطوي على أدلة ، علامات من الهدى، فالغاية من إنزاله هو تبيان المناهج الواجبة في مواجهة الضلال ، وأن النص لم يحدد الضلالة فذلك لأن مدار الكلام على الغاية من إنزال القرآن الكريم وهذا لا ينحصر بزمان النزول ،أو بنوع معين من الضلال ، بل هو منهج واضح يهتدي به كل من يحاول رشدا في أي زمان أو مكان . إذن مطلق الهدى لمناقضة مطلق الضلال ، ومطلق الهدى لا يقتضي تفصيلا ؛ بل يقتضي بينات/أدلة/علامات .
وتعطف الآية الكريمة (الفرقان) على بينات من الهدى ، فتكون بينات من الهدى ، وبينات من الفرقان ، فهل يعني هذا أن الفرقان غير الهدى ؟
البينات هي الأدلة، أي العلامات ، وتبين الآية الكريمة نوع هذه البينات فيه (من الهدى) وهي من ( الفرقان) ، البينات هي علة إنزال القرآن أما نوعها فهو مرتبط بنوع الضلال ، ولا يضل الانسان إلا لأمرين ، الأمر الأول هو الضياع والمضي في طريق لا تؤدي إلى غاية المضي ، وهذا يقتضي علامات من الهدى. والأمر الثاني هو في اللبس ، واللبس: خلط الأمور بعضها ببعض ، وهذا يقتضي علامات تفرق بينها ، والفرقان هو نوع تلك العلامات (فرق بينهما فرقا وفرقانا بالضم: فصل).
إذن القرآن الكريم ، أنزل إلى السماء الدنيا ،وعلة إنزاله هي :
-الهدى:وهذا يعني أن الناس رهائن الضلال .
-بينات من الهدى: وهذا يعني أن الناس يسعون إلى الهدى ولكنهم لا يمتلكون منهجا قويما لذلك .
-بينات من الفرقان: وهذا يعني أن اللبس يغلف مسعى الناس إلى الهدى ، وهم فقراء إلى ما يفرق بين الخليط من الأمور .(1)
وهذا يشير أن القرآن الكريم وحي ، رسالة خاصة من الله إلى عبده ، ينطوي على قصص تم تتبعها بما تقتضيه مقاصد الرسالة ، يرمي إلى إيقاظ العقل في تتبع التاريخ وأحداثه ، من أجل صناعة التاريخ وليس العيش في التاريخ !!
كذلك فإن القرآن الكريمحقل معرفي مرجعي فيه الهدى والبينات والفرقان ولكن لا يمكن أن يفقهه إلا من أوتى القدرة على تدبر آياته والتفكر فيها وإعمال عقله في فهم دلالاتها وتحقيق مناطاتها ، وإذا تم تلقيه من غير تدبر فذلك يوصل إلى الضلال لا محالة ، بل هو إبطال حقيقي لعلة تنزيله !!
أفلا يتدبرون القرآن !! ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا !! والتوبيخ في هذا الآية الكريمة يفيد أن المنهج الذي يتبع في تلقي القرآن هو منهج غير سليم ، ويفيد أيضا أن المنهج السليم هو التدبر وإعمال العقل !! فهل من متدبر في هذا الشهر ؟!
رمضان كريم