.
أنْ تدجَّن ، أن تعود كائنا اعتياديّا ، كالآخرين ، ..
الرعاع ، الرُعناء ، منْ حين يجدون جسداً وفراشاً وطعاما ، ..
يركلون الأديان والقيم والحضارات ، ويلعنون الذين لن يناموا أو يموتوا تلك الليلة ..
أن تصبح مشفقاً على جلّادك ، حنيّاً ، ..
حانياً عليه ، رؤوفاً بيده الساقطة بالسوطِ على ظهرك ، ..
أن يحزنك سهره من أجل التخطيط للقضاء عليك ، أنْ تودّ لو نام ، ..
تبتهل إلى الله أن يفرّج همّه ، يزيل غمّه ، واللذان بالطبع .. ليسا سواكـ
أن تروّض ، أن تغدو كلباً مسنّا ، خنزيراً بلا أنياب حادّة حتى ، ..
حماراً هرماً ، تعاقبت عليه الركوبات والأسفار ، أن تغدو ديكاً أبحّا أعرجاً مريضا ، ..
أن تفكّر على هيئة: ما الذي حصّلت ، لا ماذا ستحصّل ، ما الذي بقي ، ..
ما الذي يمكن أن أنجو به ، أن تنسى المكاسب ووفرتها ، لتفكّر كيف تقلّل خسائرك الوفيرة ..
هذا هو ما منحتنيه هذه المدينة اليوم ، ..
لقد توجّهت إلى الله ، توجّهاً قطيعيّاً ، حتى الدعاء .. لا بدّ أن يكون معهم.
لم أستشعر أنّني أرتّل الدعوات لسيّدي "وليّ الأمر" ، ..
أنّني أمدّ يديّ مع بقيّة الخانعين ، توسّلا إلى الله ، ..
أن يهب أولئك الذين لا يملكون الوقتَ ليدعوه ، أن يمنحهم ما يريدون.
إنّهم هنا ، يدعون لهم بوفرة ، إنّ كبار مفسدي المدينة هنا وصالحيها ..
لا يطيقون أن يمدّوا أيديهم إلى أحدٍ ، ولو كان الله ..
لذلك ، لديهم الكثير من الأبواق المأجورة ، ممن يشغلون وظيفة معقّبين بينهم وبين الله ، ..
بينهم وبين مخطّطاتهم في الجنّة ، بينهم وبين حجز مقاعدهم في الفردوس الأعلى. وتجهيز إقامات أعدائهم ، مخالفيهم في دهاليز الجحيم ..
والبلد هذا ، المدينة هذه خصوصاً ، ..
وأخرى غيرها ، تهبهم الكثير من هذه الفئات.
هذه الظهيرة ، لعنتني كثيراً ، ..
أحسست برغبة في أن أقول: آمين ، بخشوعٍ غير ذي ثورة ، ..
كالذي "كان" ينتابني كلّما صاح بوق: أعن وليّ أمرنا. أن أصرخ بداخلي: أعنه علامَ ، ..
على ذبحنا ، سحلنا ، قتلنا ، نهبنا ، غصبنا ، محوِ أمرنا ، علامَ يعينه أيها الرجس المرجوس ..
هذه الظهيرة ، كدت أقول آمين ، كدت أساير المسجد الضاجّ بالخشوع الرسميّ المفتعل ، ..
تحت برودة التكييف الأمريكيّ ، على الموكيتِ الصينيّ ، أن أقول له: أعنه ، نعم أعنه ، دون أن أسأل ، أن أصرخ: علامَ يعينه ..
بالصدق ، لم أقل: آمين ، إلا أنّ المُرْبك ،
أنّني لم أقل: لا ، لا ، أيها البوق اسكت ، انكتم أيها البوق ، هذه المرّة
.. اكتفيت بالصمت !
الصمت ، لشاهد الجريمة .. جريمة !
هكذا ، وإلا فإنّ الخيانة تُسربل كلّ الأسوياء ، ..
من يعرف القاتل ، ويرى دم المقتول ، ثمّ يصمت .. ينبغي أن يقتل ، أن يسحل ، ..
أنّه يحبّ أن تشيع الغيلة في البشريّة ، إنّه يتستّر ، إنّه يرعى الجريمة ، يباركها في المدينة !
لا تصمت يا رفيق ، اصرخ ، نادِ على أيّ أحد ، أومئ على الأقلّ ، ..
أن تصمت ، وأنت تعرف الحقيقة ، ألعن ألف مرّةٍ من أن تصرخَ بالباطل !
هذه المدينة ، تشعرني بالتدجين ، بالمظهريّة ،
بالثياب المنشّاة ، بالوجوه الزائفةِ المزوّقة ، بالمراكب الفارهةِ جوار
الأقدام الحافية ، ..
بالشمس على الوجوه .. بينما يخيّم الظلام في
القلوب ، إنّها تمنحني كتلة من الإسمنت على قلبي ، تزفّت مسارب روحي ،
ترصف دروب صدري ، ..
تحيل ثقافتي السخيفة ، لسجائرَ من فئة هابطة ،
لمنفضة ، لمناديل غير صالحة للاستخدام ، لأوراق صحف مهترئة ، لعبوّات
فارغة ، تضجّ ، ولا تمتلئ بشيء !
الجمعة هذه ، تشعر أنّكَ لا تساوي شيء ، ولا بصقة حتّى ، ..
ولا ذبابة بقدم وحيدة ، ولا وحيداً بلا قرنٍ ولا مأوى ، تشعر بكونك زائداً على العالم ، ..
لم ترد فلسطين في قائمة الدعاء الأخير من الخطبة ، سوى آخرا ، لقد جعلوها في الذيل ، ..
حتى في الخطبة يتذكّرها الإمام/البوق/جهاز التسجيل أخيراً ، بعد أن يدعو الله برخص الأسعار ، وتوفير الخبز والأرزّ ، ..
وفتح المطارات ، والحجوزات من أجل قضاء إجازة ممتعة في سهول النمسا ، قال له ، لله: والقدس .. إنّها جيّدة !
هذه المدينة .. مترعة بالخنوع ، ..
كلّ شوارعها موحلة بالجبن والكبرياء
أرذل أمرٍِ .. أن تكون جباناً مستكبرا !
أن تكون جبانا .. رذيلة ، أن تكون متعالياً بجبنكَ .. أرذل منها ، ..
أن تجمع الرذيلتين .. هو أن تكون قاطنِ ذي المدينة ، ثم ترضى ما رضيه أهلها لأنفسهم.
الجبن والكبرياء ..
أمثولة النعاماتِ الهزيلة !
النظّارات السوداء ، تخفي الأعين ، لكنّها تكشف زيف القلوب ..
تكشف خنوعاً يطوّق كلّ شيء ، كلّ شيء هنا ، يمتزج بالخنوع ، لقد تعب الذي ظلّ يمزجه بهم كثيرا !
يخافونَ الآخرينَ ، أن يشهدوا الخنوع ، أن يبصروه يترقرق في أعينهم ، ..
والعمالة المنسحقة بالحرّ والعبوديّة ، تدعو الله كذلك: آمين ، ..
تؤمّن على مزيد من عبوديّتها وانسحاقها واستغلالها ، ..
أي الأديان هذا الذي يحيل إنساناً ينام بقدر عمل إنسان آخر ، ..
ثمّ يأخذ النائم عشرة أضعاف العامل القائم في الحرّ والظهيرة والعناء وذكريات العائلة البعيدة ، ..
يسأل المعلّم الطفلَ أين أبوك ، فيردّ: هناك .. في بلد الحرمين الشريفين ، يتنهّد الفصل أجمع ، أمنيةَ أن يكونوا كلّهم هنا ، ..
أرجوكم .. لا ، لا ، لا تأتوا ، يكفيني عذابا !
هذه الجمعة ، ..
مرّ الإمام على الكثير ممّا يهمّ الأمّة في هذا
الصيف الملتهب ، التكييف ، المنتجعات ، السفرات والإقامات ، الولائم
والزيجات ، الدعوات والنجاحات والسقوط ، ..
طالبهم أن لا يرهقوا ظهر الحكومة باستخدام
التكييف كثيرا ، طالبهم أن لا يشغلوا أسطول الحكومة الجويّ بالسياحةِ
مديدا ، طالبهم أن يشجّعوا السياحة الداخلية ، ..
اليوم ، اكتشفت أنّ من مهمّة الخطيب أن يكون
مروّج بضائع ، أن يكون موظفاٌ من وزارة السياحة والآثارِ والدعاية
والإعلانِ والكهرباء ، من أي مكانِ ووزارة ، ..
إلا أن يكون من وزارة الشؤون الإسلاميّة
والأوقافِ والآثار ، لأنّ بلدان السياحة التي حضّ عليها ، لم يكن بينها
بلدٌ إسلاميّ واحد ، إلا إن قصد بمدريدَ .. قرطبة !
أيتها المدينة المدجّنة ، أدرك أنّي طفل ، غريبٌ ، ووحيد ، أعرف حجمي ، ..
لكن أقسم لكِ ، لو وضعتِ يدكِ على كتفي مرّة أخرى ، كي أستقيم في طابور خانعيك ، لأقطعنّها ، ..
أرجوكِ ، ما تعوّدت رتابةَ الطوابير أبداً ، مذ عرفتُ أنّ بغدادَ ، تسمّى مدينة السلام – سابقا - !