التوجيه السياسى والعسكرى لحرب اكتوبر
لأول مرة في جولات الصراع العربي الإسرائيلي تم قبل حرب أكتوبر وضع استراتيجية كاملة لمصر لتحقيق التناسق والتوازن بين الهدف السياسي للدولة وقدراتها العسكرية، وفي الوقت ذاته اعداد الدولة للحرب سياسيا واقتصاديا وإعلاميا.
في الأول من أكتوبر 1973 أرسل الرئيس الراحل محمد أنور السادات بصفته رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة توجيها سياسيا وعسكريا الى الفريق أول أحمد أسماعيل وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة كان يتكون من:
اولا: عن الوضع العام.
ثانيا: عن استراتيجية العدو.
ثالثا: عن إستراتيجية مصر في هذه المرحلة.
رابعا: عن التوقيت.
وعن الوضع العام فقد ركز الرئيس السادات على عدة نقاط حول المحاولات التى تبذلها اسرائيل بتأييد من أمريكا لفرض إرادتها على مصر وعلى أزمة الشرق الأوسط بما يحقق لها السيطرة في المنطقة العربية.
وذكر السادات كيف أن مصر حاولت بكل الوسائل ان تجد حلا للأزمة بداية بقبول قرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر في 22 نوفمبر 1967 وإنتهاء بمباردة السادات للسلام والتى أعلنها الرئيس في 4 فبراير 1971 في خطاب له بمجلس الشعب والتى كانت تقضى بإعادة فتح قناة السويس تمهيدا لإنسحاب إسرائيل بشكل شامل تطبيقا لقرار مجلس الأمن، وتابع الرئيس السادات في توجيهه الإستراتيجي كيف أن كل هذه الخطوات باءت بالفشل أو توقفت.
وتابع الرئيس السادات في توجيهه كيف أن مصر قامت بعمليات حربية محدودة (حرب الإستنزاف) في سنوات 68، 69، 70، كما قدمت دعما للمقاومة الفلسطينية لمباشرة أعمالها الفدائية، الا أن كل هذه العمليات لم تصل في ضغطها على العدو الى الحد الذي يدفعه الى الرضوخ لقرارات مجلس الأمن. و سجل الرئيس كيف أن الشعب المصري تحمل الكثير من أعباء مادية ومعنوية فادحة سعيا لنيل حريته. و عن الموقف العربي ذكر الرئيس الراحل كيف أن تحسينات مهمة قد طرأت عليه. و أنهى الرئيس السادات حديثه عن الوضع العام بقوله أن العدو أصبح في شبه عزله بعد الجهود المصرية الناجحة في المجالات الدولية
أما عن استراتيجية العدو فقد ركز الرئيس الراحل على أن العدو انتهج لنفسه سياسة تقوم على التخويف والإدعاء بتفوق لا يستطيع العرب تحديه وهو ما يبلور نظرية الأمن الإسرائيلي التى تعتمد على الردع النفسي والعسكري بحيث يصل الى العرب وبخاصة مصر أنه لا فائدة من تحدي إسرائيل وبالتالي فليس هناك مفر من الرضوخ لشروطها حتى وإن تضمنت هذه الشروط تنازلات عن السيادة الوطنية.
أما عن استراتيجية مصر في هذه المرحلة فقال الرئيس السادات: "أن الهدف الإستراتيجي الذى أتحمل المسئولية السياسية في إعطائه للقوات المسلحة المسلحة المصرية، وعلى أساس كل ما سمعت وعرفت من أوضاع الاستعداد يتلخص في:
تحدي نظرية الأمن الإسرائيلي عن طريق عمل عسكري حسب امكانيات القوات المسلحة يكون هدفه الحاق أكبر قدر من الخسائر بالعدو وإقناعه ان مواصله احتلاله لأراضينا يفرض عليه ثمنا لا يستطيع دفعه.
اذا استطعنا بنجاح أن نتحدى نظرية الأمن الإسرائيلي فإن ذلك سوف يؤدي الى نتائج محققه في المدى القريب وفي المدى البعيد.
ففي المدى القريب: فإن تحدى نظرية الأمن الإسرائيلي يمكن أن يصل بنا الى نتائج محققه تجعل في الإمكان أن تصل الى حل مشرف لأزمة الشرق الأوسط.
في المدى البعيد: فإن تحدى نظرية الأمن الإسرائيلي يمكن أن يحدث متغيرات تؤدي بالتراكم الى تغيير أساسي في فكر العدو ونفسيته ونزعاته العدوانيه.
أما عن التوقيت فقد قال الرئيس السادات: "ان الوقت من الأن ومن وجهة نظر سياسية ملائم كل الملائمة لمثل هذا العمل. إن أوضاع الجبهة الداخلية وأوضاع الجبهة العربية العامة بما في ذلك التنسيق الدقيق مع الجبهة الشمالية (سوريا) وأوضاع المسرح الدولي تعطينا من الأن فرصة مناسبة للبدء.
ومع العزلة الدولية للعدو.. ومع الجو الذي يسود عنده بنزاعات الإنتخابات الحزبية وصراعات الشخصيات فإن احتمالات الفرصة المناسبة تصبح أحسن أمامنا.
التدريب على اقتحام خط برليف
كانت الحاجة ملحة للتدريب على اقتحام خط برليف حتى اذا ما حانت اللحظة الحاسمة كان الرجال يعرفون طريقهم جيدا ولما كان ذلك مستحيلا من الناحية العملية لعدم وجود تخطيط بحوزة الجيش المصري لخط برليف استعانت المخابرات المصرية بالجاسوس المصري رفيع المستوى رفعت الجمال الذى استطاع على مدى ست سنوات كاملة منذ حرب 1967 بتزويد مصر بأدق التفاصيل عن قطاعات خط برليف ومن ثم استطاعت مصر بناء قطاعات مطابقة للخط على السهل الصحراوي المجاور لمناطق استصلاح الاراضي فى الصحراء الغربية ونقل الجنود الى مواقع التدريب العملي فى سيارات مطلية باللون الاحمر وعليها اسم احد المقاولين ووضعت وسط الخيام البالية فى هذا الموقع لافتة خشبية كتب عليها انها تابعة "للمؤسسة المصرية العامة لاستصلاح الاراضي" ولم ينس رجال المخابرات ان يطمسوا جزء من اللافتة بالرمال لاخفاء بعض احرف الكلمات بحيث يبدو الموقع متهالكا ولكى يكون على اجهزة قراءة الصور الجوية المعادية ان تستخدم خيالها فى استكمال الاحرف الناقصة ثم تُهلل فرحا لرصدها!.
تحديد يوم القتال وساعة الصفر
بدأت رحلة تحديد الأيام المناسبة للعبور فى مكتب رئيس هيئة العمليات عندما وقف امامه العقيد صلاح فهمي ضابط التخطيط بهيئة العمليات ليعرض عليه التقرير اليومي وملخص ما تبثه إذاعات العالم عن الموقف الدولي وكل ما يتعلق بمصر وإسرائيل.
ونظر اليه اللواء الجمسي طويلا.. ثم قال له "يا صلاح.. هناك كتيب اعدته المخابرات العامة وطبعته بعنوان (الأعياد والمناسبات اليهودية في إسرائيل) .. هات الكتاب ده وادرسه جيدا..
ولم يكن من الصعب ان يستنتج العقيد صلاح فهمي ان الهدف هو تحديد اليوم المناسب للعبور، وبالعف اصبحت مسئولية تحديد الأيام المناسبة للعبور على عاتق سبعة من الضباط تنحصر اتصالاتهم داخل دائرة مغلقة تماما عليهم وعلى رئيس هيئة العمليات وتتراوح رتبهم بين عقيد ومقدم ويرأسهم عميد يخضع مباشرة لرئاسة اللواء الجمسي.
وكان من الضروري ان يتوفر فى هذه المجموعة هدوء الأعصاب والقدرة على التركيز العميق وتحليل المعلومات والرؤية المستقبلية الواضحة والتعاون الكامل والفكر المشترك الذى يحقق التفاهم الكامل للعمل بروح الفريق.
وكان البحث يقتضي تحديد انسب الشهور ثم انسب الايام فى الشهر الذى يقع علية الاختيار.
وبينما كان العقيد صلاح فهمي يعكف على دراسة الكتيب، كانت هناك دراسات آخرى امام الضباط السبعة الهدف منها البحث عن افضل شهور السنة لاقتحام القناة من حيث المد والجزر وسرعة التيار واتجاهه، وكان من المهم فى اليوم الذى يقع علية الاختيار ان يتميز بطول ليله وان يكون في شهر من الشهور التى لا تتعرض لتقلبات جو شديدة تؤثر على تحرك القوات.
ولاكتمال عنصر المفاجأة امتدت الدراسة الى البحث في العطلات الرسمية في اسرائيل بخلاف يوم العطلة الاسبوعية وهو السبت.
وبدأ شهر أكتوبر يبرز من بين كل الاحتمالات فهو في الثلث الأخير من العام وهو داخل الإطار الذى حدده الرئيس السادات للعبور، وهو من الشهور التى تجري فيها مناورات الخريف المعتادة مما يجعل التحركات العسكرية تتم تحت ستار المنورات والمشروعات التدريبية.
كما ان شهر اكتوبر يحتوى على ثمانية اعياد يحتفل بها الاسرائيين ومنها عيد الغفران المعروف بيوم كيبور، وعيد المظلات، وعيد التوراة، وتطرقت الدراسة الى طرق الاحتفال بكل عيد من هذه الاعياد ومدى تأثيره على اجراءات التعبئة في اسرائيل.
وفي عيد الغفران (يوم كيبور) وهو يوم سبت ستتوقف الاذاعة والتلفزيون فى اسرائيل عن العمل وهو يوم صيام وسكون تام وهذا يعنى استحالة استخدام الاذاعة والتلفزيون فى استدعاء قوات الاحتياط وحتى اذا تم تشغيلها فان احدا لن يستمع اليها لان الناس تعرف ان الاذاعة والتلفزيون لا تبث شيئا فى هذا اليوم مما يضطر القيادة الاسرائيلية الى استخدام وسائل اخرى تستغرق وقتا طويلا حتى يم تعبئة الاحتياط.
وهذا الوقت الطويل هو المطلوب بالنسبة لقوات العبور.
كما ان هذا اليوم يتميز بأن ضوء القمر سيكون ظاهرا فى النصف الأول من الليل لأنه يوم العاشر من الشهر العربي كما ان النصف الثاني سيكون مظلما وهذا يناسب تماما خطة العبور بحيث تنتهي وحدات سلاح المهندسين من انشاء وتركيب الكباري فى ضوء القمر ليستمر تدفق العبور بالأفراد والأسلحة والمعدات تحت جنح الظلام.
كما سيصادف السادس من أكتوبر العاشر من شهر رمضان وهو شهر الصيام مما يساعد على خداع العدو أكثر وأكثر.
كما سينشغل الرأى العام في إسرائيل كثيرا مع بداية اكتوبر في حملات الانتخابات الخاصة ليوم التصويت فى انتخابات الكنيست (البرلمان) والمحدد لها 28 اكتوبر 1973.
وسيكون فرق المنسوب بين المد والجزر فى القناة اقل ما يمكن مما يتيح انسب الظروف لعبور القوارب المطاطية وبناء الكباري.
وبالنسبة للجبهة السورية كان هذا اليوم مناسبا ولا يمكن تأجيله عن بدايات اكتوبر لتجنب موسم البرد الشديد وتساقط الجليد.
وانطلاقا لكل هذه الاسباب بدأ التنسيق مع القيادة السورية لعقد اجتماع مشترك، وبالفعل حضر الى الاسكندرية يوم الثلاثاء 21 اغسطس 1973 اعضاء المجلس الاعلي للقوات المسلحة السورية المكون من اللواء مصطفى طلاس وزير الدفاع، واللواء يوسف شكور رئيس الأركان، واللواء ناجي جميل قائد القوات الجوية، واللواء حكمت الشهابي مدير المخابرات الحربية، واللواء عبد الرازق الدرديري رئيس هيئة العمليات، والعميد فضل حسين قائد القوات الجوية.
وعلى الجانب المصري حضر الإجتماع الذى عقد في سرية تامة بمقر قيادة القوات البحرية بقصر رأس التين، الفريق أول احمد اسماعيل وزير الحربية، الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس الأركان، اللواء محمد على فهمي قائد الدفاع الجوي، اللواء حسني مبارك قائد القوات الجوية، اللواء فؤاد ذكري قائد القوات البحرية، اللواء عبد الغني الجمسي رئيس هيئة العمليات، اللواء فؤاد نصار مدير المخابرات الحربية.
واتفق المجتمعون على ان شن الحرب يجب ان يبدأ قبل نهاية أكتوبر تجنبا لموسم الجليد في سوريا، كما اتفق الجانبان على ان القوات المسلحة فى الجبهتين جاهزة لتنفيذ المهمة المسندة اليها.
لكن اليوم والساعة ظلا موعد جدل..
كان هناك اقتراح سوري ببدء الحرب احد ايام الاسبوع الثاني من سبتمبر بين 7 و11 من ذلك الشهر وكان الاقتراح الثاني يحدد يوم الهجوم ما بين 5 و11 اكتوبر. وكا انسب هذه الأيام بالنسبة للجبهة المصرية هو السادس من أكتوبر.
وتحددت فترة العد التنازلي للهجوم بعشرين يوم تبدأ باليوم (ي - .) اى قبل يوم الهجوم (ي) بعشرين يوم، وكان من رأى الجانب السوري انه يحتاج لخمسة ايام كاملة لتفريغ معامل تكرير البترول فى حمص لانها لو تعرضت للقصف وهي مليئه بالبترول ستشكل كارثة محققة.
وبالنسبة لساعة الصفر (س) اقترح الجانب المصري ان تكون بعد الظهر حيث يكون قرص الشمس قد مال نحو الغرب واصبحت اشعتها خلف المدفعية المصرية وفي مواجهة العدو مباشرة مما يمثل نقطة تفوق للجانب المصري، الا ان الجانب السوري اعترض على ذلك لأن القوات السورية تتجه فى قتالها نحو الجنوب الشرقي ولذلك يفضل الجانب السوري ان تكون ساعة الصفر صباحا مع اول ضوء.
واقترح الجانب المصرى تعديل الخطة لتبدأ القوات السورية هجومها اولا ثم تنطلق القوات المصرية بعد الظهر، واعترض الجانب السوري على ذلك حتى لا يواجه وحدة النشاط الجوي الاسرائيلي لعدة ساعات مع احتمال قيام العدو بهجوم مضاد على الجبهة السورية قبل هجوم الجبهة المصرية، كما ان اختلاف ساعة الصفر (س) سيفقد الخطة ميزة الهجوم المفاجئ في وقت واحد.
ودرس المجتمعون ان تقوم الجبهة المصرية بالهجوم يوم 6 أكتوبر على ان تؤجل الجبهة السورية هجومها الى فجر 7 أكتوبر لكن هذا الاقتراح تم استبعادة لاعتبارات سياسية باعتباره سيجعل الصورة تبدو كأنها حرب مصرية بدأتها مصرية ولحقت بها سوريا فضلا عن فقدان ميزة الهجوم المفاجئ ايضا.
وانتهى الاجتماع الى رفع كل النتائج التى تم التوصل اليها الى القيادة السياسية فى البلدين.
وبالفعل عندما وصل اللواء مصطفى طلاس وزير الدفاع الى دمشق ليجتمع بالرئيس حافظ الأسد كان الرئيس السادات فى اليوم نفسه يتجه ضمن جوله عربية الى دمشق فى زيارة رسمية.
واتفق الرئيسان على استبعاد كل التوقيتات التى تجعل يوم الهجوم (ي) احد ايام سبتمبر واتفقا على ان يبدأ القتال بين يومي 5 و10 أكتوبر مع ترجيح يوم السادس او قبله بيوم واحد، واقترح الرئيس السادات تخفيض فترة العد التنازلي من 20 يوم الى 15 يوم فقط.
وفى نهاية الاجتماع قدم الرئيس السادات تفويضا كاملا للرئيس السادات باعتباره القائد الاعلى للقيادة الموحدة للدولتين (مصر وسوريا) ليقوم بتحديد التوقيتات واطلاق شرارة الهجوم، وعلى ذلك تقرر ان يكون يوم (ي) هو السادس من اكتوبر وان يبدأ العد التنازلي قبله بـ 15 يوما اى يكون (ي – 15) هو الجمعة 21 سبتمبر 1973.
وضع خطة المعركة
بعد هزيمة يونيو 67 كان الواجب الرئيسي للقيادة العامة للجيش هو إعادة تنظيم وتدريب القوات المسلحة بعد حالة الإنهيار التى أصابتها في حرب يونيو. و يمكننا أن نقول أن وضع خطة تحرير الآراضي المحتلة قد بدأت عام 1967 وبالتحديد في شهر يوليو بناء على توجيه القيادة العامة للقوات المسلحة، وقد وضعت خطة التحرير على مراحل عديدة ظلت فيها تتبدل ويضاف عليها بعد التعديلات الى أن وصلت في النهاية الى الخطة "جرانيت 2 المعدلة" والتى تم وفقا لها التعاون بين القيادتين المصرية والسورية يوم 7 يونيو 1973 وهي الخطة التى تغيير أسمها في النهاية لتصبح "بدر" ويجري تنفيذها في أكتوبر 73.
الخطة 200
خطة دفاعية وضعت في الفترة ما بين يوليو 1967 و16 مايو 1971 أثناء تولي الفريق عبد المنعم رياض، ثم المشير أحمد أسماعيل، ثم الفريق أول محمد أحمد صادق لرئاسة الأركان.
يقول الرئيس الراحل أنور السادات عن هذه الخطة: "قبل أن يموت عبد الناصر بشهر واحد دعاني وذهبنا معا سويا الى مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة في مدينة نصر، وهناك جمع القادة المصريين والخبراء السوفييت ومحمد فوزي وزير الحربية في ذلك الوقت. ووقف الخبراء السوفيت والقادة المصريون لمدة 7 ساعات أمام عبد الناصر وأمامي يشرحون الخطة الدفاعية 200 التى أقرها الجميع. كان هذا هو الوضع العسكري الذى تسلمته من عبد الناصر: "خطة دفاعية سليمة 100%، ولكن لا وجود لخطة هجومية".
خطة الفريق صادق
خطة هجومية وضعها الفريق أول محمد أحمد صادق رئيس الأركان وكانت تهدف الى تدمير جميع قوات العدو في سيناء والتقدم السريع لتحريرها هي وقطاع غزة في عملية واحدة ومستمرة، وعقب الخلاف مع الفريق سعد الشاذلي رئيس الأركان فيما بعد حول الإمكانيات الضخمة التى تحتاجها مثل هذه الخطة وحتى لو توفرت مثل هذه الإمكانيات فإننا نحتاج الى سنين للحصول عليها والتدريب على استخدامها.
ولما كانت وجهة نظر الفريق الشاذلي صحيحة فقد تم الإتفاق على وضع خطتين، خطة تهدف الى الإستيلاء على المضايق وأخرى تهدف الى الإستيلاء فقط على خط برليف.و كان تنفيذ خطة الإستيلاء على المضايق يتوقف على مدى ما سيقدمه الإتحاد السوفيتي من أسلحة ومعدات. هذا وقد أكد الخبراء والمؤرخين العسكريين أن تنفيذ الخطة التى وضعها الفريق صادق نسبة الى الإمكانيات التى كانت تتوفر للجيش المصري وقتها يعد مستحيلا من الناحية العملية.
خطة المآذن العالية
هي أول خطة هجومية متكاملة يتم وضعها بعد حرب يونيو، حيث أن كل ما وضع قبل هذه الخطة لم يكن سوى مشروعات تعليمية تفترض وجود قوات ومعدات وأسلحة غير متوفره. كان الهدف النهائي لخطة المآذن العالية التى وضعها الفريق سعد الدين الشاذلي مقصورا على عبور قناة السويس وتحطيم خط برليف ثم التوقف على مدى من 10 الى 12 كم شرق القناة. و قد أكد الخبراء والمؤرخين العسكريين أنه برغم المميزات الكثيرة للخطة الا انها كانت تشتمل أيضا على عيوب منها:
عدم حدوث أي تغيير مؤثر استراتيجيا في المنطقة إذ ان تحرير هذا المدى الضيق من سيناء سيُبقى أكثر من 90% من سيناء في يد إسرائيل.
ستبقى جميع المناطق التى تحتوى على آبار بترول في سيناء في يد إسرائيل.
ستبقى قناة السويس مغلقة أمام الملاحة الدولية وهي أهم ورقة سياسية في يد مصر.
وقد وافق الفريق أحمد أسماعيل الذى تولى وزارة الحربية في 26 أكتوبر 1972 على تنفيذ هذه الخطة وتم تحديد ربيع عام 1973 لتنفيذها، الا أن ذلك القرار لم يلبث أن تغير فيما بعد.
الخطة جرانيت 2
خطة هجومية وضعت أثناء تولى الفريق سعد الدين الشاذلي لرئاسة الأركان وكانت أهدافها النهائية تتجه الى عبور قناة السويس والإستيلاء على خط برليف ثم الوصول الى منطقة المضايق كهدف استراتيجي.الا أن الفريق أحمد أسماعيل رأى عدم قدرة القوات المسلحة المصرية على تنفيذها.
الخطة جرانيت 2 المعدلة (بدر)
عقب صدور قرار من مجلس اتحاد الجمهوريات العربية في 10 يناير 1973 بتعيين الفريق أحمد أسماعيل قائدا عاما للقوات الإتحادية وتعيين اللواء بهي الدين نوفل رئيسا لهيئة عمليات القيادة الإتحادية قامت هذه القيادة بدراسة الوضع للتخطيط للقيام بعملية هجومية على الجبهتين المصرية والسورية في توقيت واحد. ونظرا لبعض الأوضاع الإستراتيجية والجغرافية قررت هيئة العمليات الحربية المصرية برئاسة اللواء عبد الغني الجمسي تجهيز خطة جديدة تشمل تقدم القوات الى منطقة المضايق بعد العبور، ونظرا لأن الخطة الجديدة كانت بالضبط هي الخطة جرانيت 2 مع ادخال بعض التعديلات عليها لذلك فقد سميت بإسم (جرانيت 2 المعدلة) ثم تم تغيير أسمها قبل العبور بشهر واحد أي في سبتمبر 1973 ليكون (بدر) وجرى تقسميها الى مرحلتين رئيسيتين:
المرحلة الأولى وتشمل العبور والإستيلاء على خط برليف والتقدم لمسافة 10 الى 12 كم في عمق سيناء.
المرحلة الثانية وتشمل تقدم القوات شرقا والإستيلاء على منطقة المضايق.
ولإيجاد فاصل بين المرحلتين كان يقال عند الإنتقال من ذكر المرحلة الأولى الى المرحلة الثانية عبارة (وبعد وقفة تعبوية) يتم القيام بتطوير الهجوم شرقا.
وفي 7 يونيو 1973 جرت في القيادة العامة بمدينة نصر عملية تنظيم التعاون للخطة الهجومية المشتركة بين القوات المصرية والسورية والتى حضرها الفريق أحمد أسماعيل والفريق سعد الدين الشاذلي واللواء بهي الدين نوفل وعدد من الضباط المصريين والسوريين. وتم تحديد أهداف الخطة على الجبهتين كالتالي:
سوريا: وصول القوات المسلحة السورية الى خط نهر الأردن - الشاطئ الشرقي لبحيرة طبرية.
مصر: وصول القوات المسلحة المصرية الى خط المضايق الإستراتيجي شرق قناة السويس.
التغلب على الساتر الترابى
في سلاح المهندسين قامت مجموعات خاصة بتحليل عدة عينات من الساتر الترابي تم جلبها اثناء احدى عمليات الإستنزاف، وجرت عمليات تحديد مكونات هذه الأتربة وانسب انواع الطلقات التى يمكن لها ان تخترق السد الترابي.
وتماثلت نتائج التحليل مع نتائج تحليل عينات آخرى تم احضارها من جزيرة (البلاح) من نواتج اعمال تعميق وتطهير قناة السويس، وثبت ان مكونات نواتج التطهير الموجودة فى جزيرة البلاح ممائلة لمكونات الساتر الترابي الذى اقامته اسرائيل امام مواقعها الحصينة شرق القناة، وتم الرجوع الى ملف (التجريف) الذى سبق اعداده.
وحكاية هذا الملف تعود الى عدة تجارب تمت بنجاح فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر على التعامل مع هذه الاتربة واثبتت هذه التجارب امكانية التغلب على الساتر الترابي بسرعة وفاعلية، بشرط تماثل مكونات الساتر الترابي مع نواتج تطهير القناة الموجودة فى البلاح، وترجع احداث هذه الخطة الى عامين سابقين عندما كانت قيادة الفرقة 19 مشاة تناقش دورها فى خطة الاعداد للعبور وكيفية نقل المشاة بكامل معداتها ومركباتها الى شرق القناة وكان ضمن المجتمعيين ضابط شاب برتبة مقدم اسمه (باقي ذكي) وكان وقتها يشغل منصب قائد فرع المركبات بالفرقة 19 مشاه.
وكان المقدم باقي قد انتدب من قبل للعمل فى السد العالي وشهد هناك عملية تجريف رمال الجبال بإستخدام المياة المضغوطة وشرح ما رآه فى السد العالى عام 1964 عندما كان يتم التجريف بواسطة مضخات رفع مياه النيل ودفعها بقوة فى خراطيم يتم تسليطها على رمال الجبال التى يسهل بعد ذلك شفطها، وكان الأمر بالنسبة للساتر الترابي اسهل كثيرا لاننا لن نحتاج الى اعادة شفط الرمال لأنها ستنساب تلقائيا الى القناة نفسها.
اذن المشكلة هي في توفير مضخات دفع المياة بهذه القوة امام مواقع معادية وفي وقت قصير والاهم توفير مصدر الطاقة التى ستدير هذه المضخات.
وقبل ان يتم ارسال هذه النتائج التى توصلت اليها الفرقة 19 مشاة الى القيادات العليا تمت تجربة على نواتج التطهير فى البلاح باستخدام طلمبات ضغط عال تعمل بالطاقة الكهربائية وتحميلها على براطيم عائمة لتشفط المياه من القناة وتدفعها الى الخراطيم وحققت التجربة نجاحا مذهلا.
وارسل اللواء سعد زغلول قائد الفرقة 19 مشاه هذه النتائج الى القيادة العامة وابلغ بها وزير الحربية زتم يومها نقل التفاصيل الى الرئيس جمال عبد الناصر الذى طلب مواصلة التجارب وتحديد المعدات المطلوبة.
ومضت الشهور وعندما حان موعد وضع الخطط تم فتح ملف التجريف واعيدت التجربة مرة آخرى فى البلاح.
واعدة وزارة السد العالي تقرير مفصل مدعم بالصور عن اسلوب التجريف الذى تم اتباعه فى اسوان، واستطاع سلاح المهندسين ان يضع مواصفات مدافع المياة المطلوبة بحيث تكون اصغر كثيرا من المعدات التى استخدمت فى السد العالى وان تعمل بالوقود حيث لن تتوافر الكهرباء.
وبدراسة قدرة البراطيم العائمة على حمل الطلمبات الميكانيكية التى تعمل بالوقود وقوة المياة المندفعة ثبت نجاح الفكرة واصبح هناك مدفع مياه يستطيع فتح ثغرة فى الساتر الترابي فى وقت قياسي يفوق كل الوسائل التقليدية ومنها القصف والتفجير
دراسة الموقف الفعلى وبداية التخطيط
في فرع التخطيط بهيئة العمليات بمبنى القيادة العامة للقوات المسلحة بمدينة نصر عقدت حلقة بحث يرأسها اللواء محمد عبد الغنى الجمسي رئيس هيئة العمليات، حضر هذه الحلقة سبعة ضباط فقط هم أعضاء فرع التخطيط بهيئة العمليات تتراوح رتبهم ما بين مقدم وعقيد.
وفي هذه الحلقة وقف اللواء الجمسيى أمام خريطة لقناة السويس وشرح الموقف كما يبدو من آخر استطلاع تم منذ 12 ساعة..
قال اللواء الجمسي ....
".. إن عبور الموانع المائية كان دائما اشق العمليات العسكرية واعقدها واكثرها فداحة فى الخسائر، وهناك جيوش حاولت عبور الموانع المائية قديما وحديثا ففشلت واصابتها الكوارث، والبعض يرى ان الموانع المائية قلت قيمتها بفضل تطور الأسلحة وظهور المركبات والدبابات المائية، لكن قناة السويس مانع فريد يختلف عن باقي الانهار والمسالك المائية الآخرىلعدة أسباب:
- يتراوح عرض القناة ما بين 180 و220 متر وطولها يصل الى 175 كيلو متر ويتراوح عمقها ما بين 16 و18 متر وينخفض سطح المياة عن حافة الشاطئ بحوالى مترين، وبذلك يستحيل عبور القناة بالمعدات التقليدية لا عما ولا خوضا ولا سيرا على القاع.
- يحد القناة شاطئ شديد الانحدار مغطى بستائر اسمنتية وحديدية تمنع نزول وصعود المركبات المائية الا بعد تجهيزات هندسية خاصة وهي صفة تنفرد بها قناة السويس عن مختلف قنوات وانهار العالم باستثناء قناة واحدة هي قناة بنما وكلتاهما قناتين صناعيتين.
- تتعرض القناة لظاهرة المد والجزر فيختلف منسوب المياة تبعا لارتفاعها وانخفاضها عدة مرات فى اليوم الواحد، ويبلغ فارق المنسوب بين اعلى مد وادنة جزر حوالي 60 سنتيمتر شمال القناة، بينما يزيد هذا الفارق كلما اتجهنا جنوبا حتى يصل الى نحو مترين قرب مدينة السويس، ولمثل هذه الظاهرة اثرها الكبير على تخطيط العبور والاعمال الفنية الخاصة بإقامة المعديات وإنشاء الكباري.
- تتميز قناة السويس بشدة التيار وسرعته التى تبدأ من 18 متر فى الدقيقة بالقطاع الشمالي وتصل الى 90 متر فى الدقيقة فى القطاع الجنوبي، كما ان اتجاه التيار يتغير دوريا كل ست ساعات من الشمال الى الجنوب وبالعكس.
- يوجد على الضفة الشرقية للقناة ساتر ترابي من ناتج حفرها يتراوح ارتفاعه من ستة الى عشرة امتاروقد استغل العدو هذا الساتر فى اقامة خط دفاعي محصن على امتداد القناة فقام بتعليته حتى وصل فى بعض القطاعات الى 25 متر ارتفاعا، كما ان العدو لم يكتف بتعلية الساتر رأسيا بل قام بإزاحته غربا حتى لامس حافة القناة تماما بزاوبة ميل تزيد على 45 درجة ليضع اما المقاتل المصري مزيدا من العقبات.
- وخلف الساتر الترابي اقام العدو عدة خطوط دفاعية محصنة تشكل في مجموعها منطقة دفاعية من اقوى المناطق الدفاعية التى عرفها التاريخ ان لم تكن اقواها على الاطلاق، وقد اطلق على الخط الاول من هذه الخطوط الدفاعية اسم (خط برليف) والذى تكلف إنشاؤه 238 مليون دولار اى ما يقرب من نصف تكاليف السد العالي.
ويتكون خط برليف من 22 موقعا حصينا يضم 31 نقطة تبلغ مساحة كل منها حوالى 4000 متر مربع تقريبا وهى عبارة عن منشأة هندسية معقدة تتكون من عدة طوابق تغوص في باطن الأرض وتعلو حتى تصل الى قمة الساتر الترابي.
ويتكون الطابق الواحد من عدة دشم من الاسمنت المسلح المقوى بالقضبان الحديدية والواح الصلب، وجهزت كل دشمة بعدة فتحات تمكنها من الاشتباك فى جميع الاتجاهات، كما وفرت هذه التحصينات والاعمال الهندسية المختلفة وقاية للنقاط القوية ضد القنابل الثقيلة حتى الف رطل.
كما احاط العدو هذه النقاط بنطاقات كثيفة من الاسلاك الشائكة وحقول الالغام المضادة للدبابات والافراد.
كما حرص العدو فى اختيار مواقع هذه النقاط ان تغطي جميع النقاط الصالحة للعبور.
- اضاف العدو خزانات وقود ومواد حارقة اضافة الى النابلم على شاطئ القناة وقد صممت هذه الخزانات بحيث تضخ على سطح المياه على امتداد القناة مزيجا من النابلم والزيوت سريعة الاشتعال مع كمية بنزين لتكون حاجزا رهيبا من النيران تصل درجة حرارته من 500 الى 700 درجة مئوية مما يجعل من القناة حاجزا كالجحيم يستحيل اختراقة .
وانهى اللواء الجمسي بقوله..
.. بذلك نرى ان قناة السويس وخط برليف ليس مجرد مانع حصين فحسب بل هو مانع فريد ليس له مثيل فى العالم وليس هناك خبرة سابقة فى تاريخ الحروب لعبور مانع مماثل"
وتبعا لذلك فقد تم تكليف الضباط السبعة بوضع حلول عملية لمواجهة هذه المعضلات التى تجعل من العبور امرا مستحيلا.