عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها خير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم و أحبهن إليه بعد السيدة خديجة رضي الله تعالي عنها وقد صرح بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال : قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك ؟ قال " عائشة " فقلت من الرجال ؟ قال " أبوها " ( أخرجه مسلم 2384 والترمذي 3885 ) وقد ولدت – رضي الله عنها – قبل الهجرة بثماني أو تسع سنوات ومات عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وهي في الثامنة عشرة من عمرها وعاشت بعده - صلى الله عليه وسلم – قرابة خمسين عاماً.
قصة زواجها :
وقد تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم – بوحي من الله - عز وجل- برؤيا رأها - صلى الله عليه وسلم – فعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنهم قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أريتك قبل أن أتزوجك مرتين رأيت الملك يحملك في سرقة من حرير ، فقلت له أكشف ، فكشف فإذا هي أنت فقلت إن يكن هذا من عند الله يمضه ، ثم أريتك يحملك في سرقة من حرير ، فقلت أكشف ، فكشف فإذا هي أنت فقلت إن يك هذا من عند الله يمضه " ( أخرجه البخاري) وهكذا من الله عز وجل علي السيدة عائشة – رضي الله عنها – فرأها نبيه - صلى الله عليه وسلم – في منامه وعرفه بها وإختارها له زوجة تقوية لصلته - صلى الله عليه وسلم – بصديقه الصدوق أبي بكر الصديق – رضي الله تبارك وتعالي عنه – ولما تتميز به أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – من قوة الحافظة ونضرة الملاحظة وكل هذا ضروري لحفظ سنته - صلى الله عليه وسلم – وتسجيل أحواله في بيته لتبقي زخراً للأمة إلي قيام الساعة .
وما يدل علي فضلها ومنزلتها عند الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم – ما يلي : -
أولاً : تسليم جبريل عليه السلام عليها فعن أبي سلمة – رضي الله عنه – أن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام فقلت وعليه السلام ورحمة الله وبركاته تري ما لا أري تريد الرسول صلى الله عليه وسلم . ( أخرجه البخاري ) .
ثانياً : زيادة فضلها – رضي الله عنها – علي ما عداها من نسائه فعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وفضل عائشة علي النساء كفضل الثريد علي سائر الطعام ( المرجع السابق جـ 3769 ) والثريد طعام يصنع من الخبز والمرق وفوقه اللحم ومنه قول الشاعر :
إذا ما الخبز تأدمه بلحم فذاك أمانة الله الثريد
ثالثاً : شدة حبه - صلى الله عليه وسلم – لها وتعلقه بها فعن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول أين أنا غداً ؟ حرصاً علي بيت عائشة قالت عائشة فلما كان يومي سكن ، وهكذا كان - صلى الله عليه وسلم – كان يلتمس ليلتها حتى أنه - صلى الله عليه وسلم – قد لحق بالرفيق الأعلى من حجرتها – رضي الله عنها – ورأسه مرتكن إلي نحرها ولعلم الصحابة – رضي الله عنهم – بمدي حبه - صلى الله عليه وسلم – لأمنا عائشة رضي الله عنها كانوا يبعثون الهدايا للنبي - صلى الله عليه وسلم – في ليلة عائشة حتى تكلمت بعض نسائه – رضي الله تعالي عنه – في ذلك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فعن هشام بن عروة عن أبيه رضي الله عنهما قال : كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة قالت فاجتمع صواحبي إلي أم سلمة فقلن يا أم سلمة والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة و إنا نريد الخير كما تريد عائشة فمري رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان أو حيث ما دار قالت فذكرت ذلك أم سلمة للنبي - صلى الله عليه وسلم – قالت فأعرض عني فلما عاد إلي ذكرت له ذلك فأعرض عني فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال : " يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة ، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها " ( البخاري ) ولا عجب فهي البكر الوحيدة التي تزوج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
رابعاً : تفريج الله عز وجل كربها والتيسير بسببها علي جميع الأمة ومما يدل علي علو منزلتها – رضي الله عنها – أنه ما نزل بها إلا جعل الله منه فرجا لها وللأمة يدل علي هذا ما روي عن عائشة – رضي الله عنها – " أنها استعارت من أسماء أختها قلادة فهلكت فأرسل رسول - صلى الله عليه وسلم – ناسا من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء فلما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم – شكوا ذلك فنزلت آيه التيمم فقال أسيد بن حضير جزاك الله خيراً فو الله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً وجعل فيه للمسلمين بركة " ( البخاري ) .
خامساً : تبرئة الله تعالي إياها وشهادته بطهارتها فعندما أثار المنافقون الشائعات حول أم المؤمنين – رضي الله عنها – وصفوان بن المعطل وقد كانت تلك الحادثة بمثابة زلزال هز أرجاء المدينة لمدة شهر كامل حتى أنزل الله عز وجل براءة أم المؤمنين من فوق سبع سموات قال تعالي : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ............)(النور: من الآية11) إلي قوله تعالي : ( ...........ِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(النور: من الآية26) .
سادساً : فقهها – رضي الله عنها – في دين الله حتى كانت موضع الفتوى لدي كبار الصحابة رضي الله عنهم فعن أبي موسى – رضي الله عنه – قال لعائشة إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحي منك فقالت سل ولا تستحي فإنما أنا أمك فسألها عن الرجل يغشي ولا ينزل فقالت عن النبي - صلى الله عليه وسلم – إذا أصاب الختان فقد وجب الغسل ( أخرجه أحمد في المسند ومالك في الموطأ ) ولقد بلغت – رضي الله عنها – من فقهها في الدين أنها أكثر الصحابة – رضي الله عنهم – رواية للحديث بعد أبي هريرة – رضي الله عنه – ومن فضلها رضي الله عنها أنها اختارت النبي - صلى الله عليه وسلم – عندما خيرهن الله تبارك وتعالي كما في سورة الأحزاب
رضي الله عن أم المؤمنين عائشة وعن سائر أمهات المؤمنين ، وصلي الله علي سيدنا محمد وآله .
شبهة زواج النبي –صلى الله عليه وسلم- من عائشة وهي صغيرة السن
يروِّج النصارى لهذه الشبهة؛ طعنًا في عفة الحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم– وتشكيكًا في طهارته، يقولون:
إن هذا الزواج هو زواج شهواني جمع بين الكهولة والطفولة، وإذا سقطت طهارة مُبلِّغ هذا الدين سقطت عفة وطهارة الدين الذي أُرسل به.
وهذه الشبهة حديثة نسبيًّا، فرغم تهجمهم المتواصل على الإسلام لم ينتقدوا أبداً النبي -صلى الله عليه وسلم- لزواجه من السيدة عائشة، بل كانوا ينتقدونه بسبب تعدد الزوجات، حتى جاء ما يسمى بعصر النهضة بمفاهيمه الحديثة فأضافوا هذه الشبهة التي تتلاءم مع توجهاتهم الثقافية!!
ولا تتوقف أهداف النصارى من هذه الشبهة عند محاولة تشكيك المسلمين في أكمل البشر وسيدها فقط، بل عندهم ما هو أهم وأولى، ألا وهو صدّ أبناء دينهم عن الدخول في هذا الدين بتشويه صورة مُبلِّغه صلى الله عليه وسلم، ومحاولة إبعاد النظر عن فضائح كتابهم المقدس الجنسية، فهم يعملون بمبدأ: "رمتني بدائها وانسلت"!!.
وهي شبهة واهية لعدة أسباب:
- لم يكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو أول الخاطبين لها، بل كانت مخطوبة "لجبير بن المطعم"، مما يدل على اكتمال النضج والأنوثة عندها، أو ظهور علاماتهما.-
- لم تكن خطبته صلى الله عليه وسلم لها ليست برغبة شخصية منه، وإنما كانت باقتراح "لخولة بنت الحكيم" على الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ وذلك لتوطيد الصلة مع أحب أصحابه وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وحينما اقترحتها كانت تعتقد أنها تصلح للزواج وسدّ الفراغ بعد موت السيدة خديجة رضي الله عنها.
- من المعروف طبيًّا أن البلوغ في المناطق الحارة يكون أسرع منه في المناطق الأقل حرارة. وقد يصل سن البلوغ عند الفتيات في المناطق الحارة إلى 8 أو 9 سنوات.
كما تقول الدكتورة "دوشني" -وهي طبيبة أمريكية-: "إن الفتاة البيضاء في أمريكا قد تبدأ في البلوغ عند السابعة أو الثامنة، والفتاة ذات الأصل الإفريقي عند السادسة. ومن الثابت طبيًّا أيضًا أن أول حيضة والمعروفة باسم (المينارك menarche) تقع بين سن التاسعة والخامسة عشرة".
- تزوج الرسول –صلى الله عليه وسلم- بعائشة، وهي بنت ست أو سبع سنوات، ودخل بها وهي بنت تسع سنوات، ففي الصحيحين -واللفظ لمسلم-: عن الأسود عن عائشة قالت: «تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي بنت ست، وبنى بها، وهي بنت تسع، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة»، فلماذا انتظر ثلاث سنوات كاملة ليدخل بها؟!
هذا دليل على أنه لم يدخل بها أو يجامعها أبدًا، وهي غير قادرة أو مؤهَّلة لذلك.
- أن زواج الرجل من فتاة صغيرة ليس بدعًا في ذلك العصر، ولا في العصور التالية له، خاصة في البلاد التي تقوم على النظام القَبَلِيّ، ولا أدلّ على ذلك من زواج "عبد المطلب" الشيخ الكبير في السن من "هالة" بنت عمّ "آمنة" في اليوم الذي تزوّج فيه "عبد الله" أصغر أبنائه من صبيّة هي في سنّ هالة، وهي آمنة بنت وهب.
ومن التجني في الأحكام أن يُوزَن الحدث منفصلاً عن زمانه ومكانه وظروف بيئته، فكيف يحاكمونه بعد أكثر من ألف وأربعمائة عام من ذلك الزواج، فيُهدرون فروق العصر والإقليم، ويطيلون القول فيما وصفوه بأنّه الجمع الغريب بين الكهولة والطفولة، ويقيسون بعين الهوى زواجًا عُقد في مكّة قبل الهجرة بما يحدث اليوم في بلاد الغرب؛ حيث لا تتزوّج الفتاة عادة قبل سنّ الخامسة والعشرين، في الوقت نفسه الذي تمارس فيه الجنس دون العاشرة.
- ألم تكن قريش أَوْلَى بالطعن على رسول الله –صلى الله عليه وسلم– إذا كان ما فعله بالزواج من عائشة مستهجنًا في هذا الوقت، وهم الذين يعادونه ويسعون للقضاء عليه وإبعاد الناس عن الانخراط في دعوته، وينتظرون له زلة أو سقطة ليشنِّعوا عليه.
فمن أعظم الأدلة والبراهين على أن الزواج بعائشة كان أمرًا طبيعيًّا من الناحية الاجتماعية ولا عيب فيه، إقرار كفار قريش به وعدم التعرض له، مع حرصهم على رميه بكل بهتان ليس موجود فيه أصلاً مثل قولهم: شاعر أو مجنون.
- كانت عائشة -رضي الله عنها- في تلك السن التي يكون فيه الإنسان أفرغ بالاً، وأشد استعدادًا لتلقي العلم. فزوجات الحبيب المصطفى كنّ كبيرات في السن، ولا شك أن التعلم في الصغر كالنقش على الحجر، وهناك الكثير من الأمور الدينية الخاصة بالنساء، أو بعلاقة الرجل بزوجته وأهل بيته، والتي تحتاج لحافظة واعية تستطيع أن تبلِّغ هذا العلم لغيرها، وهذا ما حدث منها رضي الله عنها.
ويظهر ذلك جليًّا في قول الإمام الزُهري: "لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين، وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل"، ويقول عطاء بن أبي رباح: "كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيًا في العامة".
- أشد ما يدعو للعجب هو رفض النصارى لزواج الرسول –صلى الله عليه وسلم- وكان عمرها 9 سنوات وعمره يربو على الخمسين، في حين لا يرون غضاضة أن تكن مريم العذراء مخطوبة ليوسف النجار، وهي ابنة 12 عامًا، وهو يزيد عن التسعين، أي أن الفارق بينهما كان أكثر من ثمان وسبعين سنة، كما ذكرت الموسوعة الكاثوليكية.
كما لا يوجد في كتابهم "المقدس" عبارة واحدة تحرِّم زواج الفتيات في سن التاسعة، أو حتى جملة واحدة تحدد فيها سن الزواج.
ألم يتزوج عندكم آحاز وهو ابن 10 سنين، وأنجب وهو ابن 11 سنة، فقد ورد في 2 ملوك 2:16: «كان آحاز ابن عشرين سنة حين ملك، وملك 16 سنة في أورشليم. وورد في 2ملوك 2:18: «في السنة الثالثة لهوشع بن أيلة ملك إسرائيل، ملَكَ حزقيا بن آحاز ملك يهوذا. كان ابن 25 سنة حين ملك، وملك 29 سنة في أورشليم». فيكون عمر آحاز 36 سنة. فإذا ملك ابنه وعمره نحو 25 سنة يكون أبوه قد رُزِقَ به وعُمره نحو 11 سنة.
وذكر قسهم منيس عبد النور في كتابه شبهات حول الكتاب المقدس: "لا مانع من أن يكون بينه وبين أبيه 11 سنة"، وأخذ يضرب الأمثلة التاريخية على ذلك، ومن المعروف أن سنّ نضوج الإناث يقل عن سن نضوج الذكور المتوطنين في نفس الإقليم، فهذا يعني أن زوجته ربما كانت في التاسعة أو العاشرة مثله، بل وكانت صالحة لتنجب في ذلك السن، فلماذا تنكرون الزواج من عائشة في مثل هذا السن، وكتابكم لا ينكره.
كيف ينكرون الزواج على الحبيب المصطفى في الوقت الذي يؤمنون فيه بأن الأنبياء ارتكبوا الموبقات والفواحش من زنا المحارم؛ كادعائهم زنا لوط -عليه السلام- بابنتيه، وزنا داود بزوجة جندي بجيشه، بل يأمر قائد الجيش بالانكشاف عنه حال الحرب ليقتله الأعداء، ولا يجدون غضاضة في أن يوصف سليمان -عليه السلام- بالكفر، وأنه عَبَد الأوثان؛ لأجل إرضاء زوجاته الوثنيات.
قصة الإفك
وردت قصة الافك في سورة النور , وسورة النور هي سورة الحدود الشرعية, وأشهر قصة فيها هي قصة عصبة الافك التي حاكها المنافقون لعنهم الله تعالى بحق أم المؤمنين السيدة الطاهرة المطهرة عائشة بنت أبي بكرالصديق رضي الله عنهما وأحبّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم واقربهنّ اليه صلى الله عليه وسلم, لأنها الزوجة الوحيدة التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بكرا, ولأنها ابنة الصديق صاحبه صلى الله عليه وسلم ورفيقه في الهجرة الى المدينة المنورة بالغار.
وردت هذه القصة في الآيات الكريمات 11- 21.
مدّت السيدة عائشة رضي الله عنه يدها الى عنقها تتلمس بحركة لا شعورية عقدا يزينه فلم تجده, واعتقدت أنه انسلّ من عنقها حيث كانت تقضي بعض شأنها بعيدا عن معسكر المسلمين الذين قد غادروا المكان لتوّهم عائدين من غزوة بني المصطلق , فذهبت الى حيث كانت لتتفقد العقد ظنا منها رضي الله عنها انها أنه لا يزال هناك متسع من الوقت عن الرحيل, فالقوم لا يزالون يستعدون لرفع الخيام وحزم امتعتهم, وقصدت رضي الله عنها المكان الذي كانت فيه لتجد العقد وقد تناثرت حباته هان وهناك, وما أن لملمت حباته وعادت حتى فوجئت بالقوم وقد رحلوا, وكان الظلام قد هبط وعمّ الأرض كلها , فشعرت بالخوف الشديد والرهبة والوحشة , فجلست في مكانها وجمعت عليها ثوبها واستسلمت لما يقضي الله عزوجل في أمرها, وهي تُعزي نفسها بأنّ القوم لا بدّ وان يكتشفوا غيابها من هودجها فيعودون اليها.
كان الظلام دامسا, ونسيم الصحراء القارس ليلا يسفعُ الوجوه سفعا, ويكاد يُجمّد الأطراف من شدة البرد, عدا عن عواء بعض الوحوش الشاردة الذي يرهب القلوب, فقضت رضي الله عنها بعض الوقت مستسلمة لقضاء الله وقدره تنتظر فرج الله سبحانه وتعالى.
ويسوق الله تبارك وتعالى اليها صحابيا جليلا كريما هو صفوان بن المعطل السلمي, رضي الله عنه وأرضاه, وكانت وظيفة هذا الصحابي الجليل أن يقوم بما عهد به اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تفقد جيش المسلمين بعد رحيله في كل مكان يكون الجيش معسكراً فيه, وكان رضي الله عنه ينظر دائما في الأماكن التي ينزل بها الجيش للراحة بعد الرحيل, فلعلهم تركوا شيئا وراءهم أو نسوا شيئا, وجلّ من لا ينسى , او لعلّ عدوهم يتبِّع أثرهم احتياطا وحرصا.
وبينما هو يقوم في مهمته اذ لمح شخصا مُلتفا في ثيابه, مستغرقا في نومه, فنزل رضي الله عنه عن ناقته واتجه نحوه يمشي على مهل وئيدا خشية أن يُفزعه أو يُخيفه, واذا يتبيّن له أنّ الشخص الملتف بثيابه لم يغادر أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها, وكانت المفاجأة المذهلة التي لم يستطع معها كتمان صرخة , فقال بصوت عال: انا لله وانا اليه راجعون , ظعينة رسول الله!!!!! صلى الله عليه وسلم, فاستفاقت رضي الله عنها مذعورة على ترجيعه وصوته, وخمّرت وجهها بجلبابها ولم تنبس ببنت شفة, فقال رضي الله عنه: ما خطبك؟ يرحمك الله!!!! فلم ترد عليه جوابا حياءً وخجلا, فالواقعة بحد ذاتها تعقد اللسان عن الكلام, عندها قدّم اليها راحلته فركبتها, واخذ بزمام الراحلة ومضى راجلا يطلب جيش المسلمين , وما التفت رضي الله عنه اليها قط, ولا حدثها حديثا يُسليها فيه أو يخفف عنها مصيبتها من همٍّ وغمٍّ أصابها, ولم يدرك رضي الله عنه القوم الا في اليوم الثاني وكان النهار قد انتصف مع حلول الظهيرة.
وما أن اجتمعت بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى بادرها صلى الله عليه وسلم بالسؤال: ما خطبك وفيم تخلفت؟
أجابت رضي الله عنها: سمعتك ليلة الأمس تؤذن القوم بالرحيل, فذهبت لقضاء بعض شأني , ولما عدت الى رحلي تفقدت عقدي, فاذا هو قد انسلّ من عنقي , فذهبت في طلبه, ولما عدت وجدت القوم قد ارتحلوا, ما فيهم داع ولا مجيب, فتلفعت في ثيابي , ولزمت مكاني , لعلكم اذ تفقدونني فلا تجدونني تعودون في طلبي , ثم ضرب الله على أذني فنمت, وما استيقظت الا على صوت صفوان.
وصدّقها رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولم يخالجُهُ صلى الله عليه وسلم أدنى شك فيما قالت, انها ابنة الصديق في شرف منبتها, وطهارة عرقها وأصلها, انها ابنة صاحبه في الغار, وابنة رفيقه في الهجرة رضي الله عنهما.
لكن عصبة السوء وجماعة الافك والكذب والافتراء ما أن رأوها على الراحلة التي يُمسك صفوان بزمامها مقبلين من الصحراء حتى أطلقوا العنان لألسنتهم تنفث سمها الزعاف, وتبدي حقدها, وأخذوا يتخوضون الكذب , ويقعون في عرضها ويتهمونها في شرفها رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
وكان اللعين عبد الله بن أُبَيُّ بن سلول, رأس النفاق والشرك, وزعيم تلك العصابة الباغية, والذي حين رآها حتى قال مقالة السوء : والله ما نجت منه ولا نجا منها....يقصد صفوان رضي الله عنه.
وانتشرت مقالة السوء بين النفوس الضعيفة وعلى ألسنتها انتشار النار في الهشيم, حتى أنّ مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت شاعر النبي صلى الله عليه وسلم, وزيد بن رفاعة وحمنة بنت جحش رضي الله عنهم كانوا من أولئك النفر الذين تابعوا ابن أبي بن سلول في مقالته وأشاعوها بين الناس , يفيضون عليها ويزيدون ويُزيّنون به حتى بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم , ومسّ أذنيّ أبوها رضي الله عنه, وباتت حديث الصغير والكبير , القاصي والداني, وظلّ القوم في هرجٍ ومرجٍ , واتهامٍ ودفاعٍ , وشكٍ ويقينٍ , حتى بلغوا المدينة المنورة, وكل هذا والسيدة عائشة رضي الله عنها لا تعرف شيئا عن ذلك , وهي صاحبة الشأن والقصة, ولم يبلغها أيّ كلمة مما خاض فيه الناس.
ولحكمة جليلة لا يعلمها الا علام الغيوب, لم تمض أيام قليلة حتى داهمتها حمى شديدة ألزمتها الفراش, وترقبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلبا عطوفا, ووجها باسما, ويدا حانية, ومداعبة لطيفة كما عودها, الا انها لم تظفر بشيء من ذلك, الأمر الذي زاد في أساها وحزنها وعلتها, لم تكن لترى منه صلى الله عليه وسلم سوى نظرة قصيرة خاطفة, وسؤال فيه جفاء: كيف تيكم! دون أن يذكر صلى الله عليه وسلم حتى اسمها رضي الله عنها.
اشتد الكرب عليها رضي الله عنها اشتدادا عنيفا مدمرا, وكانت تساءل نفسها: ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرق لحالها! لا يرثي لمرضها! لا يجفل بشأنها! ولم تسأله في ذلك, ووما زاد أمرها سوءا عندما استأذنته صلى الله عليه وسلم بأن اتذهب الى بيت أبيها, فتمرضها أمها وتقوم على خدمتها, وعندما أذن لها صلى الله عليه وسلم زاد في تعجبها وتساؤلها وتفاقم همومها.
أقامت في أحضان أمها أم رومان رضي الله عنهن بضعا وعشرون ليلة واستعادت بعض عافيتها وهي لا زالت لا تدري شيئا عما يحدث خارج جدران الدار من زلزلة وعواصف هي محورها وسمعتها وشرفها وقطب رحاها.
ذات ليلة خرجت رضي الله عنها الى فسح المدينة بعيدا عن دار اهلها لقضاء حاجة ترافقها أم مسطح بن أثاثة رضي الله عنهم, وبينما هما تمضيان في طريقهنّ تعثرت أم مسطح رضي الله عنها وكادت أن تسقط ارضا, فقالت: تعس مسطح , فانتفضت أم المؤمنين رضي الله عنها وقالت لها: بئس لعمر الله ما قلت في رجل شهد بدرا, فقالت لها: أو مابلغك الخبر يا ابنة أبي بكر؟ أجابت رضي الله عنها: وما الخبر يا ام مسطح؟ فحدثتها بما كان وما تقوّل به ابنها مسطح وحسان بن ثابت وما أذاعه وأشاعه عبد الله بن سلول , وما تزيدّت فيه حمنة بنت جحش رضي الله عنها.
فنزل الخبر على قلبها الطاهر رضي الله عنها نزول الصاعقة, فأزبد وجهها وعلته حمرة الغضب , وارتجت أطرافها , ثم ما لبثت أن تماسكت وقالت: أكان هذا؟ أجابتها أم مسطح: نعم والله كان, فقالت رضي الله عنها: هيّا بنا نعود.
ودخلت رضي الله عنها الدار وانتحت احدى نواحيه واتكأت تبكي حسرة وألما وكمدا حتى لم يعد يرقأ لها دمع ولا تجف لها عبرة في لوعة وحرقة, واتتها امها تواسيها ولا تدري أنها قد بلغها خبر ما أسرته عنها وكتمته, فقالت لها رضي الله عنها: يغفر الله لك يا أماه, تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا؟ أجابتها أمها رضي الله عنها: أي بنيّة! خففي عنك الشأن وهوّني! فو الله لقلما كذبت امرأة حسناء عند رجل يحبها ولها ضرائر الا اكثرن عليها.
وانقضى شهر, ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال في حيرة من أمرها, وريب من قصتها, ودوامة من الأوهام, تقض عليه مضجعه ومنامه, وتؤرق سهاده, وتبلبل يومه وشأنه, يتطلع الى الوحي, ويتشوق الى الرؤيا, عله يجد فيهما فرجا مما هو فيه من ضيق النفس وهمّ البال, ومخرجا من حالة القلق.
اذا كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الله تبارك وتعالى على الاطلاق يعيش لحظات قلق وترقب لأكثر من شهر من الزمن بساعاته ودقائقه وثوانيه, فما نحن فاعلين نحن المغموسين ذنوبا من رؤوسنا حتى أخمص قدمينا؟
وانقضى اليوم الأول بعد الشهر ولا ينزل وحي السماءعليه السلام ولم تتح الرؤيا له صلى الله عليه وسلم, فمال الى استشارة الأصحاب, واستفتاء الخلص, وسأل صلى الله عليه وسلم أول ما سأل أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش, وعلى الرغم من أنّ زينب هي أخت حمنة وضرة السيدة عائشة رضي الله عنهنّ, الا أنها شهدت فيها خيرا وقالت قولة الحق: أحمي وسمعي وبصري يا رسول الله, والله ما علمت عليها الا خيرا.
ثم سأل صلى الله عليه وسلم حبّه وابن حبّه أسامة بن زيد رضي الله عنهما, فقال: يا رسول الله! سل جاريتها بربرة تصدقك الخبر.
وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بربرة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت شيئا يريبك؟ فقالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت منها أمرا أغمضه (أعابه) عليها قط, أكثر من أنها جارية حديثة السن, تنام على العجين فتأتي الداجن فتأكله.
هكذا استشار النبي صلى الله عليه وسلم من حوله وبعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاستشارة والاستطلاع, ولم ير من أحد من يعيب الطاهرة المطهرة رضي الله عنها أو يؤذيها حتى بكلمة, خرج الى المسجد واعتلى المنبر مغضبا, وبعد أن حمد الله تبارك وتعالى وأثنى عليه, قال عليه الصلاة والسلام: أيها الناس! ما بال رجال يؤذونني في أهلي, ويقولون عليهم غير الحق, والله ما علمت منهم الا خيرا, وقد ذكروا رجلا ما علمت منه الا خيرا, وما يدخل بيتا من بيوتي الا وهو معي.
ثم ذهب عليه الصلاة والسلام الى عائشة في منزل أبيها فوجدها تبكي, ووجد عندها امرأة من الأنصار تبكي معها, وعندها أبواها رضي الله عنهم أجمعين, فسلم عليها ثم قال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة! انه قد كان ما بلغك من قول الناس, فاتقي الله, فان كنت قد فارقت سوءا بما يقول الناس فتوبي الى الله يقبل التوبة من عباده.
ولم تجبه رضي الله عنها, بل التفتت الى أبيها وقالت: اجب عني رسول الله.
فقال رضي الله عنه: والله ما أدري ما أقول.
فالتفتت الى أمها وقالت: أجيبي عني رسول الله, فقالت أمها ما قاله أبوها رضي الله عنهم.
وحين لم ترى من أبويها قولا يدفع عنها التهمة ويمزق خيوط الشك والريبة التي نسجت حولها, نطقت وقالت: والله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في هذه الآيام, ثم أجهشت في البكاء وخنقت صوتها الدموع والعبرات, واردفت تقول: والله لا أتوب الى الله بما ذكرت أبدا, والله اني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس, والله يعلم اني لبريئة, لأقولنّ ما لم يكن, ولئن أنكرت ما يقول الناس لا تصدقوني, وعادت الى بكائها وحاولت أن تتذكر اسم يعقوب عليه السلام فلم تسعفها الذاكرة وهي في هذا الوضع المأساوي التي هي فيه فقالت: ولكني أقول لكم كما قال أبو يوسف: فصبر جميل , والله المستعان على ما تصفون
وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسكت أبوها واجما, وتنهدت أم رومان رضي الله عنهم, وبينما هم على تلك الحال حتى تغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه حين نزول الوحي عليه السلام, فسجّي في ثوبه صلى الله عليه وسلم, ووضعت وسادة تحت رأسه صلى الله عليه وسلم, عندها علمت عائشة رضي الله عنها بأنّ الوحي سيفصل في أمرها, ويجلو غامض الشك عن قضيتها التي شغلت الناس مدة, وآذت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه أذى بليغا, فترقبت رابطة الجأش, مطمئنة النفس, واثقة بأنّ الله تعالى ومن فوق سبع سموات سيبرئها.
أما أبواها رضي الله عنهم ما كادا يحسان بنزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب قلبيهما ومادت الأرض تحت أقدامهما, مخافة أن يصدق الوحي حد\يث الناس بالسوء وتكون الكارثة والطامة الكبرى.
ثم سري عنه صلى الله عليه وسلم وقطرات العرق تنحدر من جبينه الطاهر الشريف مثل حبات اللؤلؤ فنزيده مهابة واشراقا, سري عنه وهو صلى الله عليه وسلم يبتسم وينظر الى زوجه رضي الله عنها ويقول: أبشري يل عائشة, لقد أنزل الله تعالى براءتك في قرآن يتلى بين الناس, ثم أخذ صلى الله عليه وسلم يقرأ آيات الله البينات:
(انّ الذين جاؤوا بالافك عصبة منكم, لا تحسبوه شرا لكم, بل هو خير لكم, لكل امرىء ما اكتسب من الاثم, والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم..). ولما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة الآبات الكريمات انشرح صدر أبي بكر وتنفست أم رومان رضي الله عنهما الصعداء.
وأقسم ابو بكر رضي الله عنه ألا يصل بعد اليوم مسطح بن أثاثة فلا يعطيه كما كان يعطيه من قبل, ولا يكلمه لمقابلته الاحسان بالاساءة, فانزل الله تبارك وتعالى آيات بينات هي تتمة حديث الافك في سورة النور يحضّ على الصلة والبر والاحسان بقوله عزوجل: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولوا القربي والمساكين والمهاجرين في سبيل الله, وليعفوا وليصفحوا , ألا تحبون أن يغفر الله لكم, والله غفور رحيم).
فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى أحبّ أن يغفر الله لي, وعاد الى سابق عهده من الخير والصلة وكفّر عن يمينه.
هذه قصيدة ابن بهيج الأندلسي ،
التي تصورها على لسان أم المؤمنين السيدة "عائشة رضي الله عنها"
فتأملوها وأعجبو بها وهي تناظر وتفاخر ،
وتدفع في نحور الأعداء بسلاح الحجة والبرهان
.
[i]يا مُبْغِضِي لا تَأتِ قَبْرَ مُحَمَّدٍ.... فالبَيْتُ بَيْتي والمَكانُ مَكاني
إِنِّي خُصِصْتُ على نِساءِ مُحَمَّدٍ.....بِصِفاتِ بِرٍّ تَحْتَهُنَّ مَعاني
وَسَبَقْتُهُنَّ إلى الفَضَائِلِ كُلِّها....... فالسَّبقُ سَبقي والعِنَانُ عِنَاني
مَرِضَ النَّبِيُّ وماتَ بينَ تَرَائِبي...... فالْيَوْم يَوْمي والزَّمانُ زَماني
زَوْجي رَسولُ اللهِ لَمْ أَرَ غَيْرَهُ...... اللهُ زَوَّجني بهِ وحَبَاني
وأتاه جبريل الأمين بصورتي ....... فأحبني المختار حين رآني
أنا بِكْرُهُ العَذْراءُ عِنْدي سِرُّهُ....... وضَجيعُهُ في مَنْزلي قَمَرانِ
وتَكلم اللهُ العظيمُ بحُجَّتي ....... وبَرَاءَتِي في مُحكمِ القُرآنِ
واللهُ خفَّرَني وعَظَّمَ حُرْمَتي....... وعلى لِسَانِ نبِيِّهِ بَرَّاني
والله في القرآن قد لعن الذي ...... بعد البراءة بالقبيح رماني
واللهُ وبَّخَ منْ أراد تَنقُّصي ....... إفْكاً وسَبَّحَ نفسهُ في شاني
إني لَمُحْصَنةُ الإزارِ بَرِيئَةٌ....... ودليلُ حُسنِ طَهارتي إحْصاني
واللهُ أحصنَني بخاتِمِ رُسْلِهِ...... وأذلَّ أهلَ الإفْكِ والبُهتانِ
وسَمِعْتُ وَحيَ الله عِندَ مُحمدٍ...... من جِبْرَئيلَ ونُورُه يَغْشاني
أَوْحى إليهِ وكُنتُ تَحتَ ثِيابِهِ....... فَحَنى عليَّ بِثَوْبهِ خبَّاني
مَنْ ذا يُفاخِرُني وينْكِرُ صُحبتي....... ومُحَمَّدٌ في حِجْره رَبَّاني؟
وأخذتُ عن أبويَّ دينَ محمدٍ...... وهُما على الإسلامِ مُصطَحِبانِ
وأبي أقامَ الدِّين بَعْدَ مُحمدٍ....... فالنَّصْلُ نصلي والسِّنان سِناني
والفَخرُ فخري والخلافةُ في أبي ...... حَسبي بهذا مَفْخَراً وكَفاني
وأنا ابْنَةُ الصِّديقِ صاحبِ أحمدٍ..... وحَبيبِهِ في السِّرِّ والإعلانِ
نصرَ النبيَّ بمالهِ وفِعاله....... وخُروجهِ مَعْهُ من الأوطانِ
ثانيه في الغارِِ الذي سَدَّ الكُوَى....... بِردائهِ أكرِم بِهِ منْ ثانِ
وجفا الغِنى حتى تَخلل بالعبا...... زُهداُ وأذعنَ أيَّما إذعانِ
وتخللتْ مَعَهُ ملائكةُ السما....... وأتتهُ بُشرى اللهِ بالرضوانِ
وهو الذي لم يخشَ لَومةَ لائمٍ...... في قتلِ أهلِ البَغْيِ والعُدوانِ
قتلَ الأُلى مَنَعوا الزكاة بكُفْرهم...... وأذلَّ أهلَ الكُفر والطُّغيانِ
سَبقَ الصَّحابةَ والقَرابةَ للهدى... هو شَيْخُهُم في الفضلِ والإحسانِِ
واللهِ ما استبَقُوا لنيلِ فضيلةٍ....... مَثلَ استباقِ الخيل يومَ رِهانِِ
إلا وطارَ أبي إلى عليائِها...... فمكانُه منها أجلُّ مكانِِ
ويلٌ لِعبدٍ خانَ آلَ مُحمدٍ........... بعَداوةِ الأزواجِ والأختانِ
طُُوبى لمن وَالَى جماعةَ صحبهِ..... ويكون مِن أحبابه الحسَنانِِ
بينَ الصحابةِ والقرابةِ أُلْفَةٌ....... لا تستحيلُ بنزغَةِ الشيطانِ
هُمْ كالأَصابعِ في اليديْنِ تواصُلاً .....هل يستوي كَفٌ بغير بَنانِ؟
حَصِرتْ صُدورُ الكافرين بوالدِي... وقُلوبُهُمْ مُلِئَتْ من الأضغانِِ
حُبُّ البتولِ وبعلِها لم يختلِفْ......... مِن مِلَّة الإسلامِ فيه اثنانِ
أكْرِم بأربعةٍ أئمةِ شرعنا .......... فهُمُ لبيتِ الدينِ كالأركانِ
نُسجتْ مودتهم سَدَىً في لُحمةٍ..... فبناؤها من أثبتِ البُنيانِ
اللهُ ألَّفَ بين وُدِّ قلوبهم....... ليغيظَ كُلَّ مُنافق طعانِ
رُحماءُ بينهمُ صَفَتْ أخلاقُهُمْ......وخَلتْ قُلُوبهمُ من الشنآن
فدُخولهم بين الأحبة كُلْفةٌ...... وسبابُهم سببٌ إلى الحرمانِ
جمع الإلهُ المسلمين على أبي......واستُبدلوا من خوفهم بأمانِ
وإذا أراد اللهُ نُصرةَ عبده....... من ذا يُطيقُ لهُ على خذلانِ
مَنْ حبَّني فليجتنب مَنْ سبني..... إن كانَ صان محبتي ورعاني
وإذا محبي قد ألظَّ بمُبغضي.......... فكلاهما في البُغض مُستويانِ
إني لطيبةُ خُلِقْتُ لطيبٍ.......... ونساءُ أحمدَ أطيبُ النِّسوان
إني لأمُ المؤمنين فمن أبى........حُبي فسوف يبُوءُ بالخسران
اللهُ حبَّبَني لِقلبِ نبيه......... وإلى الصراطِ المستقيمِ هداني
واللهُ يُكْرِمُ من أراد كرامتي.....ويُهين ربي من أراد هواني
والله أسألُهُ زيادةَ فضله.......وحَمِدْتُهُ شكراً لِما أولاني
يا من يلوذُ بأهل بيت مُحمدٍ....... يرجو بذلك رحمةَ الرحمان
صِلْ أمهاتِ المؤمنين ولا تَحُدْ.....عنَّا فتُسلب حُلة الإيمان
إني لصادقة المقالِ كريمةٌ..... إي والذي ذلتْ له الثقلانِ
خُذها إليكَ فإنما هي روضةٌ......محفوفة بالرَّوْحِ والريْحانِ
صلَّى الإلهُ على النبي وآله.... فبِهِمْ تُشَمُّ أزاهرُ البُستانِ
ال الإمام أبوبكر بن العربي المالكي-رحمه الله- :
روى قوم أن البيعة لما تمت لعلي استأذن طلحة والزبير علياً في الخروج إلى مكة، فقال لهما عليُّ: لعلكما تريدان البصرة والشام. فأقسما ألا يفعلا. وكانت عائشة بمكة.
لما بويع لعلي بن أبي طالب استأذن طلحة والزبير علياً - رضي الله عنه - في الذهاب إلى مكة فأذن لهما) 1
فالتقيا هناك بأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها-، وكان الخبر قد وصل إليها أن عثمان قد قُتل، - رضي الله عنه - فاجتمعوا هناك في مكة وعزموا على الأخذ بثأر عثمان.
فجاء يعلى بن منبه من البصرة، وجاء عبد الله بن عامر من الكوفة، واجتمعوا في مكة على الأخذ بثأر عثمان -رضي الله عنه-
فخرجوا من مكة بمن تابعهم في البصرة يريدون قتلة عثمان، وذلك أنهم يرون أنهم قصّروا في الدفاع عن عثمان - رضي الله عنه -.
وكان عليّ - رضي الله عنه - في المدينة، وكان عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - والياً على البصرة من قبل عليّ بن أبي طالب فلما وصلوا إلى البصرة أرسل إليهم عثمان ابن حنيف: ماذا تريدون؟
قالوا: نريد قتلة عثمان.
فقال لهم: حتى يأتي عليّ، ومنعهم من الدخول.
ثم خرج إليهم جبلة وهو أحد الذين شاركوا في قتل عثمان فقاتلهم في سبعمائة رجل فانتصروا عليه وقتلوا كثيراً ممن كان معه، وانضم كثير من أهل البصرة إلى جيش طلحة والزبير وعائشة - رضي الله عنهم أجمعين-.
عند ذلك خرج عليّ - رضي الله عنه - من المدينة إلى الكوفة وذلك لما سمع أنه وقع هناك قتال بين عثمان بن حنيف وهو والي علي على البصرة وطلحة والزبير وعائشة ومن معهم، فخرج عليّ - رضي الله عنه - إلى الكوفة وجهز جيشاً قوامه عشرة آلاف، وخرج لمقاتلة طلحة والزبير، وهنا يظهر لنا جلياً أن عليّ بن أبي طالب هو الذي خرج إليهم، ولم يخرجوا عليه، ولم يقصدوا قتاله كما يدعي الشيعة وبعض من تأثر بهم.
وأرسل المقداد بن الأسود، والقعقاع بن عمرو ليتكلما مع طلحة والزبير واتفق المقداد والقعقاع من جهة، وطلحة والزبير من جهة أخرى على عدم القتال، وبيّن كل فريق وجهة نظره. فطلحة والزبير يريان أنه لا يجوز ترك قتلة عثمان، وعليّ يرى أنه ليس الآن بل حتى تستتب الأمور، فقتلُ قتلة عثمان، متفق عليه والاختلاف إنما هو في متى يكون ذلك.
وبعد الاتفاق نام الجيشان بخير ليلة وبات السبئية (وهم قتلة عثمان) بشر ليلة؛ لأنه تم الاتفاق عليهم، وهذا ما ذكر المؤرخون الذين أرخوا لهذه المعركة أمثال الطبري 2
وابن كثير 3 وابن الأثير 4وابن حزم 5 وغيرهم. عند ذلك أجمع السبئيون رأيهم على أن لا يتم هذا الاتفاق، وفي السِّر والقوم نائمون هاجم مجموعة من السبئيين جيش طلحة والزبير وقتلوا بعض أفراد الجيش وفروا ,فظن جيش طلحة أن علياً غدر بهم فناوشوا جيش عليّ في الصباح فظن جيش علي أن جيش طلحة والزبير قد غدروا فاستمرت المناوشات بين الفريقين حتى كانت الظهيرة فاشتعلت المعركة.
وقد حاول الكبار من الجيشين وقف القتال، ولكن لم يُفلحوا فكان طلحة يقول: ( يا أيها الناس أتنصتون؟ فأصبحوا لا ينصِّتونه فقال: أُفّ أفّ فراش نار وذبان طمع. 6
وعلي يمنعهم ولا يردون عليه وأرسلت عائشة كعب بن سوار بالمصحف لوقف المعركة فرشقة السبئيون بالنبال حتى أردوه قتيلاً، وذلك أن الحرب والعياذ بالله إذا اشتعلت لا يستطيع أحدٌ أن يوقفها وقد ذكر البخاري أبياتاً من الشعر لامرئ القيس:
الحـرب أول ما تكـون فتيــة تسعـى بزينتها لـكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشـب ضرامها ولّت عجوزاً غيـر ذات حليل
شمطاء ينكـر لونـها وتغــيرت
مكروهـة للـشـم والتقـبيل
ووقعة الجمل كانت في سنة ست وثلاثين من الهجرة أي في بداية خلافة علي - رضي الله عنه -. بدأت بعد الظهر وانتهت قبيل مغيب الشمس من نفس اليوم كان مع عليّ عشرة آلاف وأهل الجمل كان عددهم ما بين الستة والخمسة آلاف وراية عليّ كانت مع محمد بن علي بن أبي طالب وراية أهل الجمل مع عبد الله بن الزبير.
وقُتل في هذا اليوم كثير من المسلمين وهي فتنة سلم الله تبارك وتعالى منها سيوفنا ونسأل الله لهم الرضوان والمغفرة.
وقتل طلحة والزبير ومحمد بن طلحة، أما الزبير فلم يشارك في هذه المعركة ولا طلحة، وذلك أن الزبير - رضي الله عنه - لما جاء إلى المعركة, يُروى أنه لقي عليّ ابن أبي طالب فقال له علي: أتذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (تقاتلني وأنت لي ظالم ,فرجع الزبير في ذلك اليوم ولم يقاتل).
وهو الصحيح أنه لم يقاتل، ولكن هل وقع هذا بينه وبين عليّ؟ الله أعلم؛ لأنه ليس للرواية سند قوي، ولكن هي المشهورة في كتب التاريخ ,والمشهور أكثر أن الزبير لم يشارك في هذه المعركة، وقتل الزبير غدراً على يد رجل يُقال له ابن جرموز.
وقتل طلحة بسهم غرب (سهم غير مقصود) أصابه في قدمه مكان إصابة قديمة فمات منها رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهو يحاول منع الناس من القتال، ولما انتهت هذه المعركة وقُتل الكثير وبخاصة في الدفاع عن جمل عائشة؛ لأنها كانت تمثل رمزاً لهم فكانوا يبسلون في الدفاع عن عائشة، ولذلك بمجرد أن سقط الجمل هدأت المعركة وانتهت وانتصر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
وإن كان الصحيح أنه لم ينتصر أحد، ولكن خسر الإسلام وخسر المسلمون في تلك المعركة. فلما انتهت المعركة صار عليٌّ - رضي الله عنه - يمر بين القتلى فوجد طلحة بن عبيد الله فقال بعد أن أجلسه ومسح التراب عن وجهه: عزيزٌ علي أن أراك مجدَّلاً تحت نجوم السماء أبا محمد، وبكى علي - رضي الله عنه -، وقال: وددت أني مِت قبل هذا بعشرين سنة. 7
وكل الصحابة بلا استثناء الذين شاركوا في هذه المعركة ندموا على ما وقع، وكذلك رأى عليّ - رضي الله عنه - محمد بن طلحة فبكى، وكان محمد بن طلحة يُلقَّب بالسّجاد من كثرة عبادته - رضي الله عنه -.
وابن جرموز دخل على علي ومعه سيف الزبير يقول: قتلت الزبير، قتلت الزبير، فلما سمعه عليّ قال: إن هذا السيف طالما فرج الكرب عن رسول -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: بشر قاتل ابن صفية بالنار، ولم يأذن له بالدخول عليه) هذا رواه ابن سعد بسند حسن. 8
لماذا لم يقتل عليّ قتلة عثمان؟
عليّ كان ينظر نظر مصلحة ومفسدة، فرأى أن المصلحة تقتضي تأخير القصاص لا تركه, فأخر القصاص من أجل هذا، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في حادثة الإفك، وذلك أنه تكلم في عائشة - رضي الله عنه - بعضُ الناس, ومن أشهر من تكلم في عائشة حسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، ومسطح بن أثاثة، وكان الذي تولّى كبره عبد الله بن أبي بن سلول، فصعد النبي عليه السلام، وقال: من يعذرني في رجل وصل أذاه إلى أهلي؟ (يعني عبد الله بن أبي بن سلول) فقام سعد بن معاذ وقال: (أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان منا معشر الأوس قتلناه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا بقلته).
فقام سعد بن عبادة فرد على سعد بن معاذ، وقام أسيد بن حضير فرد على سعد بن عبادة فجعل النبي يخفضهم. 9
عَلِم أن الأمر عظيم ذلك أنه قبل مجيء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، كان الأوس والخزرج قد اتفقوا على أن يجعلوا عبد الله بن سلول ملكاً عليهم فهو له عندهم منزلة عظيمة، وهو الذي رجع بثلث الجيش في معركة أحد، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ترك جلد عبد الله بن أبي بن سلول , لماذا؟ للمصلحة والمفسدة، إذ رأى جلده أعظم مفسدة من تركه، وكذلك علي - رضي الله عنه - رأى أن تأخير القصاص أقل مفسدة من تعجيله لأن علياً - رضي الله عنه - لا يستطيع أن يقتل قتلة عثمان أصلاً؛ لأن لهم قبائل تدافع عنهم، والأمن غير مستتب، وما زالت فتنة، ومَنْ يقول: إنهم لن يقتلوا علياً - رضي الله عنه -؟ وقد قتلوه بعد ذلك.
ولذلك لمَّا وصلت الخلافة إلى معاوية لم يقتل قتلة عثمان أيضاً؟ لماذا؟ لأنه صار يرى ما كان رآه عليّ، كان علي يراه واقعاً، ومعاوية كان يراه نظرياً فلما آلت الخلافة إليه رآه واقعاً، نعم معاوية أرسل من قتل بعضهم، ولكن بقي آخرون إلى زمن الحجاج يعني إلى زمن عبد الملك بن مروان حتى قُتل آخرهم. المهم أن علياً - رضي الله عنه - ما كان يستطيع أن يقتلهم لا عجزاً، ولكن خوفاً على الأمة.
ولما انتهت المعركة أخذ علي أم المؤمنين عائشة وأرسلها معززة مكرمة إلى المدينة كما أمره النبي -صلى الله عليه وسلم-، عن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((سيكون بينك وبين عائشة أمر، قال عليّ فأنا أشقاهم يا رسول الله، قال: لا ولكن إذا كان ذلك فاردها إلى مأمنها)). 10ففعل - رضي الله عنه - ما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. 11
قال الإمام أبوبكر بن العربي المالكي: ولما ظهر علي - رضي الله عنه - جاء إلى أم المؤمنين - رضي الله عنها- فقال: (غفر الله لك) قالت: (ولك, ما أردتُ إلا الإصلاح). ثم أنزلها دار عبد الله بن خلف وهي أعظم دار في البصرة على سنية بنت الحارث أم طلحة الطلحات، وزارها ورحبت به وبايعته وجلس عندها.
فقال رجل: يا أمير المؤمنين إن بالباب رجلين ينالان من عائشة، فأمر القعقاع بن عمرو أن يجلد كل منهما مئة جلدة وأن يجردهما من ثيابهما ففعل. 12
وقال ابن العربي المالكي: أما خروج عائشة - رضي الله عنها – فهو اجتهاد منها لتحقيق غاية طلحة والزبير، والتعاون مع علي من أجل إطفاء الفتنة، والقضاء على المنافقين من قتلة عثمان - رضي الله عنهم جميعاً.
فأين هذه البراءة مما زعمه بعض المفترين بأن خروج عائشة - رضي الله عنها - يوم الجمل كان انتقاماً من علي - رضي الله عنه - من أنه حض الرسول -صلى الله عليه وسلم- على طلاقها في حادثة (الإفك)، لما رأى من حزنه من كلام بعض الناس... وقد قال غير واحد أنها اجتهدت، ولكنها أخطأت في الاجتهاد، ولا إثم على المجتهد المخطئ، بل له أجر على اجتهاده، وكونها - رضي الله عنها- من أهل الاجتهاد مما لا ريب فيه. 13
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- في المنتقى (ص223):" إن عائشة لم تقاتل، ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانت كلما ذكرت تبكي حتى تبل خمارها. وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير - رضي الله عنهم - أجمعين، ولم يكن لهؤلاء قصد في القتال، ولكن وقع القتال بغير اختيارهم." 14
والحمد لله رب العالمين