قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع من أُعطيهن فقد أُوتي خيري الدنيا والآخرة: لسانًا ذاكر، وقلبًا شاكر، وبدنًا على البلاء صابرًا، وزوجة صالحة لا تبغيه خَونا في نفسها وماله"[2] (صدق رسول الله).
من أعظم نعم الله!
هذه نِعَم أربع من أعظم النعم التي يُؤتيها الله الإنسان ... خير من المال، وخير من الجاه، وخير مما يسعى إليه الإنسان، من الأنعام والحرث والقناطر المُقنطرة من الذهب والفضة. من أوتي هؤلاء الأربع فقد أُوتي خير الدنيا والآخرة.
أول هذه النعم: اللسان الذاكر
أن يُؤتيك الله سبحانه وتعالى لسانا يذكره على كل الأحيان، وفي كل الأحوال، لا يفتُر عن ذكر الله ... اللسان الرطب بذكر الله عز وجل.
حينما يُشغل الناس بدنياهم، وحينما تستغرق الناس مصالحهم، هو يذكر الله عز وجل، فإن الله سبحانه لم يرضَ من عباده أن يذكروه مجرد ذكر، أو ذكر قليل، وإنما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:42،41].
إن المنافقين قد يذكرون الله، ولكن على قِلة ونُدرة، كما قال تعالى في وصفهم: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142]، أما المؤمنون فهم دائموا الذكر لله عز وجل، {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} [آل عمران:191].
إنهم في كل أحوالهم ذاكرون لله، لا ينسونه في السلم، في الحرب، حتى إذا لقي الجيشُ الجيشَ، والتقى الصفان والتحما، يذكرون الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].
وأشد ما يحرصون عليه أن يذكروا الله في مواطن الغفلة، في الأسواق وغيرها، فـ"ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل بين الفارِّين"[3] ...
لسان ذاكر ... أي لسان رطب ... كما سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام كثُرت عليَّ، فباب نتمسك به جامع. فقال: "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله"[4].
ومع هذا ينبغي أن يكون القلب مع اللسان، وإذا لم يحضر قلبه فبالتعوُّد ... إن شاء الله تصل إلى حضور القلب.
والنعمة الثانية: قلب شاكر
الذكر والشكر يقترنان دائما، كما في قول الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"[5].
فالشكر مطلوب، وأول مراتب الشكر: أن يشعر الإنسان بأن النعم كلها من الله ... هذا هو اعتراف القلب بأن كل النعم من عند الله، حتى إن جاءت على يد مخلوق، فالذي سخره هو الله، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53].
قلب شاكر ... يعترف بأن الله هو ولي النعم ومُسديها وصاحبها، وأن كل ما حوله فهو من نعمة الله عز وجل، وما أعظمها نعم الله علينا ... كل ما حولنا في خدمتنا، الله هو الذي سخر هذا.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [ابراهيم:34].
وعلى المؤمن أن يكون شاكرا ... هذه نعمة ... كما كان سليمان حينما حضر عرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه، قال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، إنما يشكر لنفسه؛ لأنه المستفيد من الشكر ...
الشكر يحفظ عليه النعمة ويُقيدها، ويجلب عليه المزيد من هذه النعمة، كما في الآية الكريمة: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [ابراهيم:7].
لسان ذاكر ... وقلب شاكر ...
والنعمة الثالثة: بدن على البلاء صابر[6]:
يتحمل المشقات، يتحمل الشظف والحرمان في سبيل الله، يجوع ويعطش لله عز وجل، يجاهد في سبيل الله، يتحمل لله ... الصبر ...
لا يمكن أن ينجح الإنسان في حياته الدنيا والآخرة إلا بالصبر، يقول المسيح عليه السلام: إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما تكرهون.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصبر ضياء"[7]، أي هو الذي يُنير للإنسان الطريق، وبدون الصبر تُظلم الدنيا في وجهه، وتضيق عليه الأرض بما رحُبت، وتضيق عليه نفسه ... فلا بد أن يصبر.
والصبرُ مِفتاحُ ما يُرجَّـى وكلُّ صعبٍ به يهـونُ
فاصبرْ وإن طالتْ الليالي فرُبَّما طاوع الحَـرُونُ
وربما نِيلَ باصطبار مـا قيل: هيهاتَ لا يكـونُ
* * *
لا تيأسنَّ وإن طالــتْ مطالبةٌ ذا استعنتَ بصبرٍ أن ترى فرجًا
أخلقْ بذي الصبرِ أن يحظى بحاجتِهِ ومُدمنُ القرعِ للأبوابِ أن يَلِجَا
فالصبر نعمة ... مَن أُوتي الصبر فقد أُوتي نعمة عظيمة، فهو السيف الذي لا ينبو، وقال علي بن أبي طالب: الصبر سيف لا ينبو، ومطية لا تكبو.
النعمة الرابعة: الزوجة الصالحة
ثم النعمة الرابعة ... زوجة صالحة ... "لا تبغيه خَونا -خيانة- في نفسها ولا ماله"، تصون عرضها، وتصون مال زوجها ...
هذه هي الصالحة القانتة الحافظة للغيب بما حفظ الله، تسرُّ إذا نُظرتْ، وتُطيع إذا أُمرتْ، وتحفظ زوجها في غيبته[8] ... هذه نعمة من نعم الله عز وجل، وهي التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة"[9]، جرَّب ذلك صلى الله عليه وسلم حينما تزوج خديجة رضي الله عنها، إنه لم يبحث عن المال، ولم يبحث عن السن، ولم يبحث عن كذا ... وإنما بحث عن امرأة ... امرأة صالحة ... الإنسانة ...
إنه إنسان يُفتش عن إنسان تكتمل فيه معني الإنسانية، ولهذا تزوجها ولم تكن بكرا، وتزوجها وهي أكبر منه بخمسة عشر عاما، وتزوجها وهي ذات أولاد من غيره، ولكن رأى فيها الصلاح، رأى فيها الخُلق.
ولا عجب أن كانت قُرة عينه، وكانت سنده في حياته بعد النبوة، هي التي وقفت تربُت على كتفه، وتُطمئن فؤاده، وتُثبِّت قلبه، وتقول له: والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتحمل الكلَّ، وتصل الرحم، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الدهر[10].
هذه هي الزوجة الصالحة ...
نساء السلف
الزوجة كنز عظيم، يقول أحد الحكماء: أما المرأة الصالحة فهي كنز عظيم، مَن أُوتيه فقد أُوتي نعمة من أعظم نعم الدنيا والآخرة.
وذلك لأنها تُعينه على طاعة الله، تُبعده عن معصية الله، كانت المرأة من نساء السلف الصالح تقول لزوجها إذا خرج لكسب أو تجارة: أي يا أبا فلان، إياك وكسب الحرام، فإنا نصبر على الجوع والسَّغَب (العطش)، ولا نصبر على حرِّ النار وغضب الجبار.
نصبر على الجوع والسَّغَب، ولا نصبر على حرِّ النار وغضب الجبار[11] ... هذه هي النعمة ... المرأة الصالحة، التي تُعين على طاعة الله، لا تُبِّثطه عن الجهاد، بل تحثُّه عليه.
إن النساء في أيام السلف كانت المرأة تحضُّ زوجها على أن يخرج للجهاد، وربما جاءها مَن يقول لها: كيف تركت هذا الرجل يخرج للجهاد؟ وكيف تبقين وحدك؟ ومَن يعولك؟ ومَن يعول أولادك؟
فتقول لهم في ثقة المؤمنة، وإيمان الواثقة: كُفُّوا أيها الناس، إن زوجي منذ تزوجتُه وعرفتُه، عرفتُه أكَّالاً .. وما عرفتُه رزاقًا ... فلئن ذهب الأكَّال لقد بقي الرزاق[12].
هذه هي النعمة، ولهذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم، من نعم الدنيا والآخرة، وفي بعض الأحاديث قال: "مَن رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه الله على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني"[13].
وفي بعض الأحاديث: "أربع من السعادة ... -وذكر هذه الأربع- المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب الهنيئ، والجار الصالح"[14].
فكل هذه من عناصر السعادة التي تُيسِّر للإنسان الحياة الطيبة، فاحرص -أيها المسلم- إذا تزوجتَ، أن تتزوج امرأة صالحة، لا تبحث عن المال، ولا تبحث عن الجمال، ولا تبحث عن الجاه، ولا تبحث عن النسب، ابحث أول ما تبحث عن الدين والصلاح ... وإذا كان معه المال، أو الجمال، أو النسب، فلا بأس بذلك، لكن عليك بذات الدين، "فاظفر بذات الدين تربت يداك"[15].
"أربع من أوتيهن فقد أوتي خيري الدنيا والآخرة ... لسان ذاكر ... وقلب شاكر ... وبدن على البلاء صابر ... وزوجة صالحة لا تبغيه خونا في نفسها وماله".
نسأل الله عز وجل.. أن يجعلنا من ذوي الألسنة الذاكرة، والقلوب الشاكرة، والأبدان الصابرة، وأن يرزقنا الأسرة الصالحة.. {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].