صدق النية والمقصد
الحمد لله أهل الحمد, وصلاتُه وسلامُه على حبيبِه أكرمِ عبد, سيدنا محمد وآله وأصحابه ومن سارَ على منهجه إلى يوم الدين, وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين, أما بعد فقد سبقَ الحديث عن صدق القول والصدق في العمل.. وقلنا إنَّ الصدقَ كما أنه يتناولُ القولَ والحديثَ, وهو أساسٌ في اتساع معنى الصدق فكذلك يتناولُ الأعمالَ ويتناول النوايا والمقاصد عند المؤمنين, وذكرنا تناولَه للأعمال بأن يكونَ العملُ قائمًا على وجهه وِِفقَ الشريعة المطهرة يستنفذ صاحبُه فيه وِسعَه في إحسانه وإتقانه , وأشرنا إلى مسألة الإخلاص فيه لوجه الله الكريم .. وهو صدق النية والمقصد, فالصدق في الأقوال الذي يتبعه تحقيق الصدق في الأفعال يُفضِي إلى تحقيقِ الصدقِ في النيةِ والمقصد .. وهذا محلُّ اصطِفاءٍ من الواحد الأحد يصطفي أصحابَه , وقد أثنى عليهم في كتابه ورفعَ شأنَهم جل جلاله فيما جاءنا من بيانه وخطابه , شأن الصادقين الذين أمرَ المؤمنين أن يكونوا معهم (( يا أيها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )).
مظاهر الصدق في النية:
الصدق في النية: إخلاصُها لوجهِ الله الكريم , الصدقُ في النية أن يخلصَ العاملُ في عملِهِ في قصدِه فيكون قصدُه صحيحًا فيما يبدو مِن عمله وفيما يبدو من قوله كذلك.. فقد يتكلم بكلامٍ حسنٍ جميل ويكون المقصدُ فيه غير حسنٍ أو غير جميلٍ أو تكون السريرةُ منطويةً على خِلافِ ما تُبدي اللسان , فحينئذٍ لا ينفع صدقُ القول مع كذب النية وعدم الصدق فيها , بمعنى قد يثني على من يستحق الثناء من المؤمنين ولكنه يطوي في قلبه بغضًا له أو سوءً وإنما اضطره إلى مدحه شيءٌ من المقاصد ومن الأغراض ..فهذا هو فساد المقاصد والنوايا وكذبها فهو إذًا يبدي خلافَ ما يُبطن فحينئذٍ يكون القصدُ مخالفاً للقول , وكذلك قد يكون مخالفًا للعمل فيما يُظهِر من الإكرام, أو فيما يُظهِر من الاحترام لمن حواليه , فالمطلوب من المؤمن الصدق الذي يعمُّ أحوالَه ويتابعُه في شؤونه حتى يدخلَ دائرتَه التي ترفعه إلى مراتب الصدِّيقين.. يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم (( ولا يزال الرجل يصدقُ ويتحرى الصدقَ حتى يكتبَ عند الله صدِّيقا ))
ومن هنا كان بعضُ أهل المعرفة من أهل الدين إذا كلَّم وخاطبَ أولادَه الصغار في البيت فأراد أن يُسِرَّ قلوبَهم أو يُفرحَهم فإنه يأتي لهم بشيء يشتريه لهم من الألعاب أو غيرها, لا يقول له سأشتري لك كذا وسآتي لك بكذا, ولكن يقول كيف ترى لو جئت لك بكذا , وكيف ترى لو أحضرتُ لك كذا, خشيةَ أن يصدرَ منه القول سآتي بكذا أو كذا ثم يتخلَّفُ العملُ عنه فيكون القصدُ وقتَ الكلامِ غيرَ مطابقٍ للكلام, فلأجلِ هذا تحرَّز عن ذلك وصار يتَّقي الحقَّ تعالى ويتورَّع في إيرادهِ الكلام مع أطفاله وأهلِ بيته الصغار فضلاً عمَّن سواهم .. هذا مظهر الصدق .
مظهرُ الصدقِ في النية والقصدِ من شأنه إقامةُ الصدقِ في القولِ وفي الفعلِ على وجههِ, كما أنَّ الصدقَ في القول سُلَّمٌ إلى الصدقِ في الفعل, والصدقُ في الفعلِ سلَّمٌ إلى الصدقِ في النيةِ والمقصد, إلا أنَّ النيةَ والمقصدَ ينعطفُ صدقُهما على الأقوالِ كلِّها وعلى الأفعالِ كلِّها فتُقيمهما على وجهِهما الأمثل, فالقول والفعل يستقيمان على الوجه الأمثل في الصدق إذا استقامت النية مع الله تبارك وتعالى, وفي الحديث أنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم سُئلَ عن الرجل يقاتل شجاعةً والرجل يقاتل حميةً والرجل يقاتل كي يُرى مكانه .. أيهم في سبيل الله ؟ فأجاب أنَّ صاحبَ صدقِ النية هو في سبيل الله بقوله (( مَن قاتلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيلِ الله )) فحينئذٍ ينبغي لكلِّ مؤمنٍ ويتأكدُ عليه أن يتطلَّبَ معانيَ الصدق وتحقيقَها في أقوالِه وفي أفعالِه وفي أحواله ؛ وما شأن الذي يمر به العمرُ لا يبالي بِخَلسةِ الكَذبةِ منه في القول ثم في الفعل إلا شأن الغافل عن ربه , إلا شأن الذي لا يبالي بصلاحِ قلبه, إلا شأن الذي لا يستعدُّ لآخرته , فينبغي أن يرفعَ المؤمنُ نفسَه عن هذا المستوى .
وإلى الصدقِ في الفعلِ والصدقِ في النيةِ والمقصَد يشيرُ قولُ الحقِّ تبارك وتعالى عن المهاجرين الذين هاجروا مع نبينا محمدٍ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بقوله (( للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم )) فهجرتهم وذهابهم وسعيُهم هذا صدقٌ في الفعل قال (( يبتغون فضلاً من الله ورضوانا )) وهذا هو صدقُ النية وصدقُ المقصد (( يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله اولئك هم الصادقون )) شَهد لهم الحقُّ تعالى بالصدقِ عليهم رضوان الله, وقد خُوطِبنا أن نكونَ مع الصادقين, وفي هذا بيانٌ للأمة في احترامِ الصحابة الكرام مِن المهاجرين ومِن الأنصار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه كما قال جل جلاله في كتابه, قد أمرنا أن نكونَ مع الصادقين, ويبينُ هذا المعنى قولُ الله تبارك وتعالى (( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم )) يقول سبحانه وتعالى (( والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان )) فأثبتَ الإتباع للمهاجرين وللأنصار مع النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم,(( والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه )) فالله يرزقنا كمالَ الصدق واتباع الصادقين والدخول في دوائرهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين .
ألا أيها المؤمن تنبه .. ألا أيها المؤمن تفطَّن .. ألا أيها المؤمن توجَّه في إقامة الصدقِ على وجهِه في أقوالك وفي أفعالك وفي مقاصدك ونياتك .. حتى تدخلَ دوائرَ الصادقين الذين يرفعُ مراتبَهم ربُّ العالمين جل جلاله .
اللهم اجعل مستقرَّ حقائقِ الصدقِ قلوبَنا ومستقر أربابِ الصدقِ ديارَنا حتى تكونَ بيوتُنا ومنازلُنا وتكون محافلُنا وتكون أسَرُنا محطًّا للصدق , وصفة الصدق بارزة فيها على الوجه الذي تحبه يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين ..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين.
http://tinypic.com/4q3dcp