من وصايا القرآن
س: أرجو تفسير الآيات الكريمة من سورة الإسراء: (ولا تقف ما ليس لك به علم… -إلى قوله تعالى- ولن تبلغ الجبال طولا).ج: هاتان الآيتان الكريمتان ذكرهما الله تعالى في الوصايا الحكيمة التي وصى بها عباده في سورة الإسراء:
(ولا تقف ما ليس لك به علم. إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسئولا. ولا تمش في الأرض مرحا، إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا)الإسراء:36-37
في الآية الأولى، يعمل القرآن على تربية العقلية العلمية في المسلم. فهناك نوعان من العقليات:
1. عقلية خرافية، تصدق الأوهام، وتجري وراء الأباطيل، وتسمع كل ما يقال لها، وتتبع كل ناعق.
وهذه عقلية يرفضها الإسلام.
2. والعقلية الأخرى وهي التي يريدها الإسلام العقلية التي تتبع الدليل وتخضع للمنطق في العقليات، وتمشي وراء الملاحظة والتجربة في الماديات وتستعمل الأدوات التي وهبها الله إياها: السمع والبصر والفؤاد.. فهذه أدوات المعرفة كما قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، وجعل لكم السمع، والأبصار، والأفئدة، لعلكم تشكرون)النحل:78.
فمن هنا يجب أن يستعمل الإنسان سمعه، فبه تنتقل المعلومات من الناس بعضهم إلى بعض بطريق الرواية.
والبصر، به تكون الملاحظة والتجربة، وعليهما قام صرح العلوم الكونية.
والفؤاد -أي العقل- به يستعمل الإنسان المنطق، ويستنتج النتائج من المقدمات.
وهذه الأدوات، هي النوافذ التي يطل منها الإنسان على أمور هذه الحياة، والكون، والشرع، وعلى خلق الله تعالى، وعلى نهيه وأمره.
فلا يجوز إذن أن يعطلها ويهملها، ويتبع الظنون والأوهام أو يتبع الإشاعات والأباطيل. ولهذا جاء في آيات كثيرة من القرآن مثل هذا التذييل والتعقيب: (أفلا تسمعون؟)، (أفلا تبصرون)، (أفلا تعقلون).
وفرق ما بين المؤمنين المهتدين، وبين الكافرين الضالين، إن الآخرين عطلوا أدوات المعرفة والهداية التي منحوها، فلم تعد تقوم بوظيفتها (لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام، بل هم أضل، أولئك هم الغافلون).
لهذا حذرت الآية من إهمال هذه القوى، فقال تعالى مخاطبا الإنسان: (ولا تقف ما ليس لك به علم).
أي لا تتبع ما ليس لك به علم، فتجري وراء الظنون، أو وراء الأوهام والخرافات.. استعمل سمعك وبصرك وفؤادك…
فإن الله سائلك عن هذه الأدوات (إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسئولا). هذا معنى الآية الأولى بإجمال.
أما الآية الثانية، وهي (ولا تمش في الأرض مرحا، إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا) فمعناها:
(لا تمش في الأرض مرحا) أي مشية الاختيال والتبختر، مشية العجب والاستكبار.. فإن هذا لا ينبغي للمؤمن وهو ليس مشي عباد الرحمن، فالله قد وصف عباد الرحمن بأنهم (يمشون على الأرض هونا)الفرقان:63.
لماذا تمشي متبخترا؟ هل تستطيع أن تخرق الأرض؟ مهما دببت برجلك فلن تستطيع ذلك!.. ومهما تطاولت وتمطيت بعنقك فلن تبلغ الجبال طولا. فأولى بك أن تمشي مشية التواضع والهون، والسكينة واللين.
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا
فكـم تحتها قوم همو منك أرفع !
وإن كنت في عز وجاه ومنعة
فكم مات من قوم همو منك أمنع!
فالمطلوب من الإنسان أن يمشي على الأرض متواضعا، سواء كان يمشي على قدميه، أم في سيارة.
هناك أناس يودون أن ينهبوا الأرض نهبا بسياراتهم مختالين، لأن أحدهم يركب سيارة ضخمة فخمة، فلا يحترم آداب المرور، ولا قواعد السير. وكأنه يريد أن يحطم ما يواجهه في الطريق. أو يطير عن الأرض بلا جناحين…
من فعل ذلك فهو ممن يمشون في الأرض مرحا، ولا يمشون هونا. ومعظم الحوادث التي تحدث في الطرقات -للأسف- من أولئك الذين يمشون في الأرض مرحا.
فعلى المسلم الذي يتأدب بأدب القرآن أن يراعي هذا، وأن يمشي في الأرض هونا، ولا يمشي فيها اختيالا ولا تبخترا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقى الله وهو عليه غضبان) (رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن ابن عمر قال الهيثمي والمنذري رجاله رجال الصحيح).
هذه الآية جاءت هنا، ووردت في وصايا لقمان لابنه في قوله (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا، إن الله لا يحب كل مختال فخور)لقمان:18.
جريان الشمس
س: كثير من العلماء يقولون بأن الأرض هي التي تدور، والشمس ثابتة، والله جل وعلا يقول في كتابه الكريم: (وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى)لقمان:29 فكيف يكون هذا؟ وكيف نوفق بين رأي العلم وقول القرآن الكريم؟ج: لقد كان بعض رجال العلم الطبيعي في هذا القرن أو قبله يقولون: إن الأرض تدور والشمس ثابتة، وثبات الشمس مخالف فعلا لظاهر القرآن الكريم، الذي يقول: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم)يس:38، ويقول: (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر، كل في فلك يسبحون)الأنبياء:33، ويقول: (وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى) فجريان الشمس وسبحاتها وسبحات الأفلاك عموما هو ما يدل عليه القرآن. ولكن هذه النظرية التي كانت تدرس قديما في الجغرافيا الفلكية قد ثبت خطؤها علميا، وجاءت بعدها نظريات أخرى تؤكد أن الشمس أيضا تجري، فهم يقولون بدوران الأرض، وبجريان الشمس نفسها، فالشمس تدور في محورها، وليست بثابتة كما كان يقال قديما. وهنا لا نجد أبدا أي تعارض بين القرآن الكريم وبين ما جاء به العلم في هذه الناحية. بعض الناس يظن أن القول بدوران الأرض لا يتفق مع القرآن، وأن القرآن يقول عن الجبال، إن الله أرسى هذه الأرض بالجبال لئلا تميد بنا، ويقول: إن الدوران يفيد الاضطراب، وهذا غير مسلم، فالميدان والاضطراب شيء، والدوران شيء آخر.
والله تعالى أرسى الأرض بالجبال، لئلا تضطرب، ولئلا تميد، ولئلا يختل ميزانها، وهذا كالسفينة تسير في البحر تكون خفيفة فتلعب بها الأمواج، وتضطرب يمنة ويسرة، فإذا وضعت فيها شيئا ثقيلا، امتنعت عن الميدان وعن الاضطراب فثبتت ورسخت مع أنها متحركة. فإذا قلت إن وضعك هذا الثقل في السفينة لئلا تضطرب، كان قولك صحيحا مع حركة السفينة الدائبة السائرة. فالله سبحانه وتعالى وضع الجبال في الأرض أوتادا لئلا تميد، وهذا لا ينافي أن تكون الأرض متحركة وتدور وتدور… فالثابت فعلا أن الكون كله يسبح، ويتحرك، هذا ما أثبته العلم وليس في القرآن ما ينافيه أبدا.
السماءس: كذلك يقول العلماء بأن السماء هي نتيجة لعدة ألوان يتولد عنها أخيرا اللون الأزرق، وهو ما نشاهده. والله تعالى يقول في القرآن الكريم: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت)الغاشية:17،18 ما تأويل ذلك؟ج: الواقع أن الآية التي استشهد بها الأخ ليس فيها ما يعارض أو يناقض ما قال به علماء الكون، من تعليل ألوان السماء، ليس في هذه الآية ولا في أي آية أخرى ما ينافي هذا.. وعلينا نحن المسلمين أن نحترم العلم الذي يقوم على الملاحظة والتجربة.. فهذا له ميدانه، والإسلام يقره بل يدعو إليه ويأمرنا أن نتفوق فيه وأن نسبق فيه، إنما -للأسف- نحن نأخذ من الأجانب الآداب قبل العلوم، مع أن العلم ليس له وطن ولا جنسية ولا دين.. العلم التجريبي يؤخذ من كل مكان، يمكن أن يقوم به المسلم، ويمكن أن يقوم به الكافر، لأنه يقوم على التجربة والملاحظة.. فما أثبتته الملاحظة الصادقة، والتجربة الصحيحة يجب أن نؤمن به، فإذا كان للعلماء آراء في هذه الناحية، في تحليل الضوء، وألوان الطيف، وانكسار الأشعة، وغير ذلك من أمور قامت بها التجارب ودلت عليها مشاهدات وملاحظات، يجب أن نحترمها، ولا نعتقد أن في ديننا ما ينافي هذا… بالعكس، ديننا -والحمد لله- سبق العلم بمراحل في أمور كثيرة. ودل على حقائق علمية كثيرة، سبق بها ما جاء به العلم المعاصر… وليس هذا أوان تفصيل ذلك… إنما اطمئن كل مسلم إلى أن القرآن، وإلى أن الإسلام ليس فيه آية واحدة وليس فيه حكم واحد ينافي ما يصل إليه العلم التجريبي الصحيح.